بعض الأرواح لا تموت.. هي فقط تختبئ في ضحكة قديمة، أو رباعية تقال على استحياء، أو رسم كاريكاتير يصفع الزمان بسخرية خفيفة.
وصلاح جاهين… لم يكن شاعرًا فقط، ولا رسامًا فحسب، بل كان صحبة كاملة: فيها الفيلسوف، والمهرج، والطفل، والحكيم.
لذلك، لم يكفني أن أكتب عنه.
أردت أن ألقاه.
وحين تمنى قلبي هذا اللقاء، انفتحت فجوة صغيرة في جدار الوقت، وامتدت يد خفية من زمن مضى، فحملتني إلى هناك…
حيث كان جالسًا، في مقهى يليق به: بسيط، دافئ، مملوء برائحة الشاي والتبغ وعبق الحكايات.
جلست أمامه، وأنا أُخفي ارتباكي في ابتسامة، وأُخبئ دهشتي وراء سؤال لم يُطرح بعد
أنا اسمي أماني… وجاية آخد منك شوية كلام… وشوية خفة دم
جاهين (يضحك وهو بيردد الاسم):
أمــاني!
اسمك لوحده بيتقال زي تنهيدة في آخر اليوم
“أماني… يعني وعد في عز الغُلب،
ونُـقطة نُـور في آخر السُـلم!”
أنا (مبهورة وبضحك):
دي جملة ولا رباعية جديدة يا أستاذ صلاح؟
جاهين (بغمزة خفيفة):
دي فتافيت كلام… بس على اسمك طلع منها سُكر!
أنا: يا أستاذ صلاح! أنا صحفية وجاية لك من 2025، بمساعدة آلة الزمن.. كنت عايزة أرجع لكلمة، لصورة، لريشة رسمتنا كلنا!
جاهين (ضاحك): زميلة يعني بس آلة زمن!؟ دي أكيد فوازير جديدة؟ طب بصي، لو الزمن بيرجعك ليّا، يبقى الزمن ده راجل جدع، أتفضلي.

أنا: حضرتك أصلًا صاحب الزمن، يعني لفيت مصر، ريف وبحور، قاهرة وموال، وعملت من وجعك أغنية، ومن خوفك عرض عرايس، صحيح هو حضرتك ريفي.
جاهين (يرفع حاجبه ويضحك):
أنا؟ ريفي؟ دي إشاعة! أنا مولود في قاهرة المعز، وأسرتي قاهرية الأصل والفصل. بس أبويا، كان وكيل نيابة، وبعد كده بقى قاضي، وشغله كان عامل زي السرك المتنقل.. كل شوية في بلد، قعدنا 12 سنة نلف القطر، نعزل من بيت لبيت، ومدرسة لمدرسة، لحد ما الطبيعة دخلت جوايا بالعافية!
أنا: يعني اللف ده خلاك تشوف مصر الحقيقية؟
جاهين: شُفتها واتعلمت منها، الأساطير، العادات، الغُنا، الرقص الشعبي، الناس البسيطة اللي قلبهم كبير، كل ده فجّر الفن جوايا، خلى إحساسي يشتغل.

أنا: وده خلّى أول حاجة تعملها لما رجعت للقاهرة تكون “سوق بلدنا”، صح، أفتكر كمان كنت بتدرس حقوق وقتها؟
جاهين: صح جدًا، بس لا حقوق ولا بتاع.. الفن ندهني من ورا الحيط، قولت أكتب عن السوق اللي في قلبي، وطلع “سوق بلدنا”، وراح صلاح أبو سيف عمله فيلم. صدفة؟ لا يا بنتي، القدر له سيناريوهات عجيبة.
أنا: لسه بتروح الموالد؟
جاهين (ينفخ دخان سيجارته ويبتسم):
طبعًا.. دي الروح، دا النَفَس! خصوصًا مولد الحسين والسيدة.. أنا والذكر أصحاب، و”الليلة الكبيرة” خرجت من هناك، رجوعي من الريف ماكنش سهل، كنت غريب وسط الزحمة، زي القطة اللي اتسابت في السيرك.

أنا: يعني “الليلة الكبيرة” كانت مواجهة مع الخوف؟
جاهين: زي ما الإنسان الأول كان بيرسم الحيوان اللي بيخاف منه على جدران الكهف عشان يتغلب عليه.. أنا رسمت القاهرة بالمولد عشان أمتلكها بدل ما تبلعني!
أنا: يعني الفن كان علاج؟
جاهين: كان دكتور نفسي، ومعالج طبيعي، وشاي كشري بالنعناع في عز الليل.
أنا (بحماس):
وبعد الليلة الكبيرة، سيد مكاوي حكالي عنك كلام كبير، قال كان بيغني “سوق بلدنا” خمس مرات في اليوم قبل ما يلاقيك!
جاهين (ينفعل):
سيد ده قلبه أنقى من اللحن! كان بيدور عليّا وهو بيغني، ولما لقاني قال “انت الجن اللي كتب الكلام ده؟” ومن يومها بقينا فريق واحد.. لا مؤلف ولا ملحن، إحنا روح واحدة.

أنا: والعرايس؟ إزاي بدأت تكتب لمسرحها؟
جاهين: أنا ماكنتش شفت مسرح عرايس خالص! كنت أعرف الأراجوز وخلاص، سنة 1958، الأستاذ يحيى حقي كان ماسك مسرح الفنون، وقال لي: “إنت اللي هتعمل الليلة الكبيرة.. بتكتب شعر وبترسم كاريكاتير!” قولت له: ليه لأ؟ وجربت.. والباقي تاريخ.
أنا: يعني الكاريكاتير دخل من باب الشعر؟
جاهين: بالعكس! الشعر كان حلم، لكن الكاريكاتير كان خبز اليوم.. كنت أقول زمان “أنا شاعر أولًا، والرسم ده أكل عيش”، لكن لما الناس حبت رسوماتي أكتر، الرسم بقى في المقدمة، والشعر بقى فسحة، دي حكاية يومية.. الجمهور بيشرب قهوته الصبح على كاريكاتيري، لو ضحكوا، أنا عشت، لو عيطوا، يبقى في أمل.

أنا: كنت بتبتدي يومك بالرسم؟
جاهين: مش شرط بداية اليوم، لأني وأنا في “الأهرام”، كنت بستنى طول النهار أتابع الأخبار من الإذاعة ووكالات الأنباء، يمكن حاجة تولّع الفكرة، ولو حصلت حاجة مهمة قبل الساعة 9 بالليل، كنت أغير الرسم فورًا، غير نظامي وأنا في مجلة روزاليوسف وصباح الخير، كنت أرسم يوم الخميس وينزل يوم الاتنين، ولازم أتخيل ايه اللي ممكن يحصل في اليومين دول، تقوليش بنجم.
أنا: يعني كنت بتقابل الجمهور كل يوم؟
جاهين (يفتح ذراعيه):
وأحلى لقاء، أكتر من 5 آلاف مرة سمعت رأي الناس، والناس عندي أهم من أي ناقد، فيهم الحكمة اللي بتقول.. “ألسنة الخلق، أقلام الحق”.

أنا (أضحك):
طب وإيه حكاية التمثيل؟ ظهرت قدام فاتن حمامة ورشدي أباظة!
جاهين (يضحك بحرارة):
آه، في فيلم “لا وقت للحب”، كنت بدور المحامي أحمد بدير، كتب الشخصية يوسف إدريس بحب شديد، لكن أنا؟ ماقتنعتش بيا كممثل.. كنت شايفني “باهت” جنبهم.
أنا: رغم كده كملت شغل في التلفزيون؟
جاهين: أيوه، عملت “هاشم وروحية”، كنت عايز أكون بيرم وبيكاسو في نفس الوقت! كتبت، وأنتجت، ولحن إبراهيم رجب، وأخرج نادر جلال، الناس انقسموا، فيه اللي قالوا تحفة، وفيه اللي قالوا مش فاهمينها، لكن أنا؟ كملت الطريق!

أنا: بعدها عملت “لغز الملكة شهرزاد”، وكانت فوازير، صح؟
جاهين: أيوه، وكان الهدف شد الناس، عملتها أنا والمخرج يحيى العالمي، واختارنا عبد المنعم مدبولي نجم شعبي، ومراتي منى قطان كانت شهرزاد.
أنا: وإزاي طلعت بـ”خلي بالك من زوزو”؟
جاهين (يمد يده لفنجان القهوة):
آه تركيبة سحرية ، سعاد حسني كانت الحلم… والبنت الشعبية اللي بتغني وترقص وتحلم. كتبنا الفيلم بتلقائية، من غير فلسفة ولا تنظير، وعمل نجاح مش متوقّع، حسن الإمام قال لي: “ده فيلم هيمشي لوحده”، وفعلًا مشي… وسبقنا!
أنا: دلوقتي يا أستاذ صلاح، تقول إيه للي بيحاول يكون كل حاجة في وقت واحد؟ شاعر، رسام، ممثل، كاتب، ومنتج؟
جاهين: أقول له امشي ورا قلبك، بس اسمع ضحكة الناس، ودمعتهم، وافهم إن الفن مش صنعة.. ده روح بتتنفس.

أنا (أقرب الكرسي شوية):
طب يا أستاذ صلاح، خليني أرجعك حبة كده لدواوينك، يعني “كلمة سلام”، و”موال عشان قنال”، و”عن القمر والطين”، و”القصاقيص”.. أسامي كلها فيها حس شاعري لكن شعبي.. ليه كنت دايمًا كده بين الاتنين؟
جاهين (يشبك صوابعه):
أصل أنا جوايا زحام.. شاعر أرستقراطي، وفلاح من الجمالية، بيرم التونسي في جيبي اليمين، وبيتهوفن في جيبي الشمال، كنت عايز أقول كل حاجة، للكل، لأن جوايا اتنين! واحد بيحب الفخامة والبلاغة، والتاني بيحب القهاوي والعفوية، فيه صلاح بتاع الدواوين والصالونات، وفيه صلاح بتاع الفوازير والراديو، اللي بيقعد يتخيل الطفل الصغير قاعد جنب جدته وبيسمع… وبيضحك!

أنا (بدهشة):
يعني لما كتبت الفوازير، كنت بتفكر في الطفل ده فعلًا؟
جاهين: طبعًا، وكل الناس اللي تعليمهم بسيط، اللي مش هيقرا دواويني لكن هايفهموا اللغز، ويحلوه، ويضحكوا، وكنت أفرح لما واحدة ست تقول لي: “أنا حليت فزورتك امبارح!”.. ساعتها بحس إن الشعر وصل، بس لابس جلابية!
أنا: والمسرح الغنائي؟ “الحرافيش” و”القاهرة في ألف عام”؟
جاهين: دي كانت تجارب بحاول فيها أعمل حاجة جديدة.. مش بس نص مكتوب، لكن صورة كاملة، فيها تاريخ، وفن، وسينما على خشبة المسرح، و”أغاني الإنسان الطيب” دي بالذات… كانت تجربة من القلب، كنت بحاول أقدّم فيها الإنسان وهو بينه وبين نفسه.
أنا (أقلب صفحة النوتة):
وإيه حكاية “دائرة الطباشير”؟ إزاي ترجمتها؟ ماكنتش تقيلة؟
جاهين (يبتسم وهو بيعدل النظارة):
كنت عايز الناس تعرف إن المسرح مش لازم يبقى تقيل، حتى لو كان مترجم. برخت كان بيقول حاجات مهمة، وأنا حبيت أقولها بطريقتي، الترجمة مش بس نقل، دي عملية زرع… كنت بزرع برخت في تربة مصرية، تطلع شجرة فيها طعمنا.
أنا (بحذر):
بس الناس ساعات ما بتفهمش بسرعة، خصوصًا لما تكون الحاجة جديدة، زي “هاشم وروحية”.
جاهين (بصوت هادي):
أنا اتصدمت فعلًا، لأن في ناس قالوا عليها “بايخة”! بس الفن مش دايمًا يضحكك من أول دقيقة، ساعات بيشدك ويعلم فيك بعدين، وأنا اخترت أكمل، أواجه، أغير، أراهن… مش مهم أخسر، المهم ألعب اللعبة.

أنا: لو كنت معانا في 2025.. كنت هتعمل إيه؟
جاهين: كنت هعمل فوازير عن العالم اللي مش فاهم نفسه.. وأكتب رباعية عن الفيسبوك، وأرسم فيروس بيضحك على بني آدم، وأضحك، وأضحككوا، يمكن نفهم حاجة.
أنا (أقف وأبص حواليّا):
طيب، أستاذ صلاح، قبل ما آلة الزمن ترجعني.. تقول إيه للقارئ بتاع زمني؟
جاهين: (يضحك، ويطفي سجارته):
أقوله يعيش.. يعيش بكل وجعه، ويغني له، يرسمه، يرقص عليه.. لأن الضحك مش رفاهية، دي مقاومة!

أنا (أقوم من الكرسي بسرعة والآلة بدأت تزن):
أستاذ صلاح… استنى! قبل ما الزمن يشدني تاني، ممكن آخد معاك صورة؟ سيلفي كده… ذكرى!
جاهين (يضرب كف بكف ويضحك):
سيلفي؟ يعني وشنا إحنا الاتنين في صورة واحدة؟! يا سلام… يا خسارة إن الكاميرات دي ماكنتش موجودة زمان، كنت صورت نفسي جنب كل فكرة جت في دماغي!
أنا (أقرب الموبايل وابتسم):
طب بص هنا كده… يلا واحدة… اتنين… تلاتة!
(الكاميرا تلتقط صورة، صلاح جاهين رافع حواجبه بنظرة فيها هزار ودهشة، وأنا جنبه بضحكة من القلب).
جاهين (وهو بيشاور على الموبايل):
خلي بالك من الصورة دي… لما ترجعي لعصرك، وريها للناس… وقولي لهم إن صلاح جاهين كان هنا، وكان لسه بيضحك!
أنا (بهمس، والصورة بتختفي في ومضة):
صلاح جاهين عمره ما راح… لأنه سايب روحه في كل كلمة وضحكة ورسمة.