في زمن كانت فيه الحياة البسيطة تحتفي بكل ما هو طبيعي وصنع باليد، كان "القفاف" أو صانع القفف رمزًا للإبداع الشعبي والمهارة الفطرية، حيث يحول الجريد والخوص إلى تحف عملية تخدم البيت والمزرعة والسوق.
مهنة تراثية عريقة قاومت الاندثار لعقود، لكنها اليوم تواجه خطر الغياب الكامل أمام زحف البلاستيك والصناعات الجاهزة.
من هو القفاف؟
القفاف هو الحرفي الذي يتقن صناعة القفف والسلال يدويًا، باستخدام مواد طبيعية مثل جريد النخل، والخوص المستخرج من النخيل، وسعف النخل بعد تنعيمه، إلى جانب الليف أحيانًا.
وكانت القفف تستخدم في حمل الفواكه والخضروات، وتخزين الحبوب، وحتى كحقائب بديلة في الأسواق والبيوت.
أدوات القفاف ومواد الصناعة
تعتمد المهنة على أدوات بسيطة للغاية، مثل:
السكين أو الموس: لتقشير وتنعيم الجريد والخوص.
الماء: لتليين المواد حتى يسهل تشكيلها.
مقص أو مشرط: لقص الأطراف وتسوية الأشكال.
الإبرة الخشبية: في بعض التصاميم الدقيقة.
لكن الأداة الأهم هي "اليد"، فصانع القفف لا يحتاج إلا لموهبته في النسج والتشكيل والإبداع في التصميم.
كيف تصنع القفف؟
يبدأ العمل باختيار الجريد المناسب، ثم ينقع في الماء لفترة حتى يصبح مرنًا. بعد ذلك، يقطع إلى شرائح طويلة، ويصفى من الشوك والزوايا الحادة، ثم تبدأ مرحلة التجديل والنسج التي تتطلب دقة وصبر.
يراعي القفاف أن يكون شكل القفة عمليًا، متينًا وخفيف الوزن في الوقت نفسه، وغالبًا ما يزينها بخطوط ملونة باستخدام أنواع مختلفة من الخوص أو الأصباغ النباتية.
أمثلة من واقعنا
في مناطق مثل الفيوم، وسيوة، والنوبة، والواحات، كانت القفف تعد جزءًا من جهاز العروس، وتستخدم لتخزين التمر، والعطارة، والملابس.
وفي الأسواق، كانت القفة الوسيلة الأولى لحمل البضائع، مثل قفة الطماطم، قفة الخضار، قفة العيش.
حتى في السينما المصرية، ظهرت القفة كعنصر رمزي في الكثير من الأفلام التي تناولت حياة البسطاء، مثل فيلم "الزوجة الثانية" و"الأرض".
أهمية القفة في الحياة اليومية
قبل انتشار الأكياس البلاستيكية، كانت القفف هي البديل البيئي الطبيعي. فهي قابلة للتحلل، وتتحمل أوزانًا كبيرة، ويمكن إصلاحها بسهولة.
كما كانت تستخدم في نقل الغلال، جمع المحاصيل، تقديم الأكل، وحتى في الزراعة، وكان لكل نوع من القفف وظيفة محددة.
القفاف في التراث الشعبي
ارتبطت المهنة بمكانة اجتماعية واحترام كبير، وظهر ذلك في المثل الشعبي الشهير:
"القفة أم ودنين يشيلها اتنين"
في إشارة إلى أن بعض الأعباء لا يتحملها الفرد وحده، بل يجب أن تشارك.
مصير المهنة اليوم
مع غزو البلاستيك والمنتجات الجاهزة الرخيصة، بدأت مهنة القفاف تتراجع، ولم يتبق منها إلا بعض الحرفيين الكبار في السن في القرى، أو الذين يعرضون منتجاتهم في المعارض التراثية والمهرجانات الثقافية.
لكن في السنوات الأخيرة، بدأت تظهر محاولات لإعادة إحياء هذه المهنة من خلال المشاريع الصغيرة، والحرف اليدوية السياحية، التي تستخدم القفف كمنتجات ديكور عصرية بروح تراثية.
مع ازدياد الوعي البيئي، عادت القفف لتطل برأسها في بعض المدن كبديل عملي وصديق للبيئة، خاصة في أسواق المنتجات العضوية، والمشروعات الصديقة للطبيعة، ومعارض الحرف اليدوية.
وهناك مبادرات شبابية تحاول تعليم هذه الحرفة للأجيال الجديدة، وربطها بمشروعات اقتصادية تحافظ على التراث وتوفر دخلًا لأسر كثيرة.



