مع بدء دونالد ترامب ولايته الثانية، يبدو أن نهج إدارته تجاه الشرق الأوسط يتسم بمزيج من الدبلوماسية الجريئة وغير التقليدية وانعدام التماسك الاستراتيجي المقلق. وبينما لا تزال الولايات المتحدة منخرطة في المنطقة، فإن تعاملاتها مع الأطراف الرئيسية، بما في ذلك حماس وإيران وسوريا، تعكس نمطًا من الارتجال يجعل الحلفاء والخصوم على حد سواء يشككون في رؤية أمريكا بعيدة المدى. قد يؤدي هذا النهج غير المنتظم إما إلى اختراقات غير متوقعة أو إلى تفاقم المشهد المتقلب أصلًا.
1- إيران: بين أقصى الضغوط ورسائل متضاربة
لا تزال إيران محورًا رئيسيًا في السياسة الخارجية الأمريكية، إلا أن موقف ترامب تراوح بين المواجهة والتواصل المتردد، عززت إدارته حملة "أقصى الضغوط"، بإلغاء إعفاء من العقوبات كان يسمح للعراق بشراء الطاقة الإيرانية، وفي الوقت نفسه، أكد ترامب أنه بعث برسالة إلى المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، يقترح فيها التوصل تضمنت التوصل إلى اتفاق نووي جديد خلال شهرين .
وفي وقت سابق صرح ترامب في مقابلة: "هناك طريقتان للتعامل مع إيران: عسكريًا، أو إبرام صفقة"، مشيرًا إلى تفضيله للدبلوماسية مع إبقاء العمل العسكري خيارًا مطروحًا، وكان رد فعل طهران متباينًا كما كان متوقعًا، وصف "خامنئي" واشنطن علنًا بأنها "حكومة متنمرة"، إلا أن المسؤولين الإيرانيين ألمحوا إلى استعداد حذر للانخراط.
يعكس هذا التناقض قضية أوسع نطاقًا: فبينما تتزايد الضغوط الاقتصادية والسياسية على إيران، لم تحدد إدارة ترامب بعد هدفها النهائي.
هل تسعى الولايات المتحدة إلى تغيير النظام؟ أم إلى اتفاق نووي جديد؟ هل هو مجرد استعراض للقوة؟ في غياب إجابة واضحة، سيظل أي انفتاح دبلوماسي هشًا.
ومما يزيد الأمور تعقيدًا موقف واشنطن المتغير تجاه روسيا والصين، فبينما يسعى ترامب إلى إعادة تقييم تحالفاته الأمريكية، فإن أي تحول في السياسة تجاه إيران ستكون له آثار متلاحقة تتجاوز الشرق الأوسط، مما سيؤثر على الدبلوماسية العالمية بطرق لا تزال غير مؤكدة.
2- إسرائيل-فلسطين: تعامل غير متوقع مع حماس
قلما كانت القرارات مفاجئة بقدر المحادثات المباشرة لإدارة ترامب مع حماس، المنظمة المصنفة "إرهابية" من قبل الولايات المتحدة..
هذه الخطوة، التي تهدف ظاهريًا إلى تأمين إطلاق سراح رهينة أمريكي، فاجأت إسرائيل، مما أثار مخاوف من أن واشنطن تُعطي الأولوية لتحقيق مكاسب قصيرة الأجل على حساب الاستقرار الاستراتيجي الأوسع، في حين وصف وزير الخارجية ماركو روبيو المحادثات لاحقًا بأنها جهد لمرة واحدة، فإن وجودها بحد ذاته يؤكد استعداد ترامب لكسر الأعراف الدبلوماسية.
وإلى جانب هذا الانخراط المفاجئ، لعبت الإدارة دورًا نشطًا في مفاوضات وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس، لا سيما بعد الهدنة التي تم التوصل إليها في يناير، ومع ذلك، مع قطع إسرائيل للمساعدات والكهرباء عن غزة بعد انتهاء المرحلة الأولى من الهدنة في الأول من مارس، وجدت الإدارة نفسها عالقة بين مخاوف حليفها الأمنية وغضب الدول العربية.
وأدت عملية غزة، إلى جانب عمليات أخرى شنتها إسرائيل ليلًا على لبنان وسوريا، وهجمات أمريكية على الحوثيين في اليمن منذ الأسبوع الماضي إلى إنهاء الهدوء النسبي في الشرق الأوسط خلال الأسابيع الأخيرة.
يواجه مبعوث ترامب إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، الآن تحدي الموازنة بين المصالح الأمريكية والمطالب الإسرائيلية والضغوط السياسية الإقليمية.
وفي لبنان، عملت الإدارة على منع نشوب حرب أخرى بين حزب الله وإسرائيل، وأعلنت نائبة المبعوث "مورغان أورتاغوس" مؤخرًا عن جولات جديدة من المحادثات تهدف إلى تعزيز اتفاق وقف إطلاق النار الموروث من إدارة بايدن، ومع ذلك، وكما هو الحال مع الكثير من سياسة ترامب في الشرق الأوسط، تظل هذه الجهود رجعية وليست استراتيجية.
3- سوريا: سياسة الإهمال
في حين اتبعت إدارة ترامب نهجًا مباشرًا تجاه إسرائيل وفلسطين وإيران، فإن استراتيجيتها في سوريا يمكن وصفها على أفضل وجه بأنها إهمال متعمد، فقد شهد الأسبوع الماضي وحده مقتل أكثر من 1000 مدني في اشتباكات بين قوات الأسد وجماعات المعارضة، إلا أن رد واشنطن اقتصر على بيان من وزير الخارجية "روبيو" أدان فيه العنف وألقى باللوم على الفصائل الإسلامية المتطرفة.
يتناقض هذا النهج السلبي بشكل صارخ مع دبلوماسية ترامب الأكثر حزمًا في أماكن أخرى، فبينما لم تتردد إدارته في التعامل مباشرة مع جهات فاعلة معادية مثل حماس وإيران، يبدو أنها غير مستعدة للتدخل في ساحة المعركة المعقدة في سوريا.
ينبع هذا التردد جزئيًا من إرهاق أمريكا الأوسع نطاقًا من صراعات الشرق الأوسط، وجزئيًا من حقيقة أن سوريا لا تزال ساحة صراع بين قوى أكبر، بما في ذلك روسيا وإيران وتركيا.
4- سياسة خارجية مرتجلة
تتمثل السمة المميزة لسياسة ترامب في ولايته الثانية تجاه الشرق الأوسط في عدم القدرة على التنبؤ بها، فمن ناحية، أبدت الإدارة استعدادًا للانخراط الدبلوماسي بطرق غير متوقعة، سواء من خلال محادثات سرية مع حماس أو التواصل مع إيران، ومن ناحية أخرى، فإن افتقارها إلى استراتيجية متماسكة يترك الحلفاء والخصوم في حالة من عدم اليقين بشأن نوايا أمريكا على المدى الطويل.
يثير انخراط ترامب الانتقائي تساؤلاتٍ مُلحة: هل لدى الإدارة خطةٌ ملموسةٌ للسلام في الشرق الأوسط؟ هل ستؤدي حملة الضغط على إيران إلى مفاوضات جادة أم إلى تصعيد للأعمال العدائية؟ وهل يُشير تردد واشنطن في التدخل في سوريا إلى تراجع أوسع عن الشؤون الإقليمية؟
وفوق كل شيء، وبينما يُعِد "ترامب" كتاب قواعده الخاصة في السياسة الخارجية، يظل الشرق الأوسط ساحة اختبارٍ لنهجه عالي المخاطر وعالي المكافآت.
وسيتضح في الأشهر المقبلة ما إذا كانت هذه الاستراتيجية ستؤدي إلى اختراقاتٍ دبلوماسية أم ستُعمّق عدم الاستقرار الإقليمي.