عندما يحل شهر رمضان في مصر، يتحوّل إلى احتفال شعبي عريق متجذّر في وجدان المصريين. تتزين الشوارع بالفوانيس الملونة، وتمتلئ الأجواء بالأناشيد الرمضانية، ويعلو صوت المدفع إيذانًا بالإفطار، بينما يردد الأطفال والكبار الأغنية الخالدة:
"وحوي يا وحوي إياحة" لكن، هل تساءلنا يومًا عن أصل هذه الأغنية؟ وكيف أصبح الفانوس رمزًا مميزًا لرمضان في مصر؟.
تعود جذور "وحوي يا وحوي" إلى اللغة المصرية القديمة، حيث تعني كلمة "وحوي" الفرح والاحتفال، أما "إياحة" فتعني القمر. وتقول إحدى الروايات التاريخية إن هذه الكلمات تعود إلى عهد الملكة العظيمة إياح حتب، الزوجة الملكية للملك سقنن رع، التي لعبت دورًا محوريًا في مقاومة الاحتلال الهكسوسي لمصر. بعد استشهاد زوجها وابنها الأكبر، دفعت إياح حتب ابنها أحمس الأول لإكمال مسيرة التحرير، حتى نجح في طرد الهكسوس واستعادة استقلال مصر. احتفاءً بهذا النصر العظيم، خرج المصريون حاملين المشاعل والمصابيح، يغنون تكريمًا للملكة العظيمة:"وحوي يا وحوي إياحة"!أي "افرحي يا افرحي يا قمر"!، تعبيرًا عن تقديرهم لدورها في تحقيق النصر.
ومع مرور الزمن، ارتبطت هذه الأغنية بمظاهر الفرح والاحتفال، وأصبحت من الطقوس المميزة لاستقبال هلال شهر رمضان، حتى بات الأطفال ينشدونها عند حمل الفوانيس في ليالي الشهر الكريم.
أما الفانوس، فقد بدأ كعادة مصرية قبطية قديمة، حيث كان المصريون يحتفلون بالمناسبات الدينية بحمل المصابيح المضيئة، وخاصة في الأعياد والاحتفالات الدينية، وذلك بخروجهم إلى الكنائس بفوانيس صنعوها بأنفسهم وعلقوها على بيوتهم والكنائس والأسواق.. وأشهر هذه المناسبات عيد الغطاس المشهور بالبلاميصا.
وعندما دخل الإسلام مصر، بقيت هذه العادة حاضرة، ومع الزمن، أصبحت الفوانيس جزءًا أساسيًا من احتفالات رمضان. وتقول إحدى الروايات إن الفوانيس استخدمت في العصر الفاطمي، عندما خرج المصريون لاستقبال الخليفة المعز لدين الله في رمضان حاملين الفوانيس لإنارة الطريق، ومنذ ذلك الحين، أصبح الفانوس رمزًا رمضانيًا خالصًا يعكس روح الشهر المبارك.
من أروع مظاهر رمضان المصري تلك الموائد العامرة الممتدة في الشوارع والأحياء، والتي تعرف بـموائد الرحمن. لا تفرّق هذه الموائد بين مسلم ومسيحي، فهي رمز للتآخي والتراحم، وتجسيد لمعنى "العيش والملح"، ذلك المفهوم المصري العريق الذي يعكس الاحترام والتقدير المتبادل بين الناس، ويعزز مفهوم العشرة بين الناس، ويشارك في إعداد هذه الموائد المسلمون والمسيحيون معًا، في صورة رائعة تعبر عن روح الوحدة الوطنية، حيث يتعاون الجميع على تقديم الطعام للصائمين، سواء كانوا فقراء أو عابرين أو أي شخص لم يتمكن من الوصول إلى منزله وقت الإفطار.
رمضان كريم جدا. تمثل مائدة الرحمن امتدادًا لقيم الكرم والجود المتأصلة في الشخصية المصرية، وتعكس إيمان المصريين بأن لقمة العيش ليست مجرد طعام، بل هي رمز للشراكة في الحياة، لمواجهة الصعوبات معًا، ونشر قيم التعايش والتسامح والمحبة. في هذه الموائد، يجلس الناس جنبًا إلى جنب، لا فرق بين غني وفقير، أو مسلم ومسيحي، فالكل ضيف على مائدة الكرم المصرية التي تعكس روح رمضان الحقيقية، حيث المحبة والعطاء دون مقابل.
رمضان في مصر له طابعه الخاص الذي لا يشبه أي مكان آخر في العالم. مدفع الإفطار، صوت قراء القرآن العظام كعبد الباسط عبد الصمد ومحمد رفعت..، المسحراتي بطبلته المميزة، والمائدة الرمضانية العامرة بالفول والتمر والعرقسوس وقمر الدين والكنافة والقطايف. وفي قاهرة المعز، تمتد صلوات التراويح والتهجد حتى السحور، وتمتلئ المساجد بالمصلين.
رمضان المصري هو مزيج من التاريخ والروحانية والفرح، حيث تتعانق الحضارات الفرعونية والقبطية والإسلامية لتشكّل هوية رمضانية فريدة، تثبت أن رمضان في مصر ليس مجرد صوم، بل هو قصة وطن وحضارة واحتفال بالحياة. كل عام والجميع بخير وسلام ورمضان كريم جدا.