برفع العلم السودانى على القصر الرئاسى والوزارات السيادية ومقر البنك المركزى ومتحف السودان القومى ومبانٍ رئيسية أخرى، استرد السودانيون تقريبًا عاصمتهم الخرطوم من ميليشيا «الدعم السريع»، بعد معارك ضارية زادت شراستها، منذ مساء الأربعاء الماضى، وألحق خلالها الجيش السودانى خسائر فادحة بالميليشيا المتمردة التى كان قد كلَّفها قبل اندلاع الحرب بحراسة القصر ومناطق استراتيجية أخرى، مثل مقر قيادة القوات المسلحة والمطار ومبنى الإذاعة والتليفزيون.
فى بيان أصدرته، أمس الأول الجمعة، قالت الخارجية السودانية إن «هذا النصر هو إسفين آخر فى نعش المؤامرة الخارجية على سيادة السودان واستقراره ووحدته وعزة وكرامة شعبه الذى لم تلن عزيمته فى مساندة قيادة البلاد وقواته المسلحة فى معركة الكرامة». وفى اليوم نفسه، أعلن الجيش السودانى عن بدء عملية تطهير لوسط المدينة من المسلحين، وقال المتحدث باسم الجيش، فى بيان عرضه التليفزيون الرسمى، إن القوات المسلحة السودانية «استولت على كميات كبيرة من معداته وأسلحته». وفى عزاء أحد الضباط، الذين استشهدوا بعد سيطرة الجيش على القصر الجمهورى، قال الفريق أول عبدالفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة الانتقالى، إنه لن يتفاوض مع ميليشيا الدعم السريع، إلا بشأن شروط استسلامها.
من العاصمة الموريتانية نواكشوط، التى زارها فى يناير الماضى، اتّهم البرهان «قوى استعمارية» لم يحددها بأنها تقف خلف «الدعم السريع وتدعمها بالمال والسلاح والمرتزقة»، وتعهّد بمواصلة الحرب حتى تحرير «كل المدن والأرياف والقرى»، و«كل شبر دنسه هؤلاء المجرمون»، واصفًا المعركة بأنها «معركة الشعب السودانى بكل قطاعاته المختلفة الذى يدافع عن شرفه وعرضه وسكنه ووطنه». وهنا قد تكون الإشارة مهمة إلى أن رئيس مجلس السيادة السودانى أعرب مرارًا عن بالغ تقديره لجهود مصر الداعمة للسودان، واستضافتها السودانيين الفارين من ويلات الحرب وتوفير الرعاية اللازمة لهم.
بعد خلاف حول خطط دمج ميليشيا «الدعم السريع» فى القوات المسلحة السودانية، بدأت الحرب بين الطرفين فى منتصف أبريل ٢٠٢٣، وراح ضحيتها إلى الآن أكثر من ١٥٠ ألفًا، وتسببت فى «أكبر أزمة نزوح فى العالم»، بوصف «المنظمة الدولية للهجرة»، و«أكبر كارثة إنسانية»، طبقًا لتقارير الأمم المتحدة. ولعلك تتذكر أننا كنا قد أشرنا، فى مقال سابق، إلى أن المناطق التى اجتاحتها ميليشيا «الدعم السريع» تحولت حرفيًا إلى جحيم، وأوضحنا أن هذه الميليشيا نهبت كل بنوك الخرطوم والجزيرة ودارفور، وصولًا إلى البنك المركزى ودمّرت آبار وأنابيب البترول، وأخرجت ٨٥٪ من المصانع عن الخدمة، ودمّرت البنية التحتية لمشروع الجزيرة الزراعى الذى كان يعد عماد الأمن الغذائى فى السودان.
المهم هو أن الجيش السودانى تمكن فى يناير الماضى من فك حصار فرضته «ميليشيا الدعم» على مقر القيادة العامة للقوات المسلحة، كما تمكن خلال الشهر نفسه من دخول مدينة «ود مدنى» الاستراتيجية التى كانت الميليشيا قد استولت عليها فى ديسمبر ٢٠٢٣، كما يسيطر الجيش السوادنى، كذلك، منذ السنة الماضية، على مدينة أم درمان، الواقعة على الضفة الأخرى من النيل الأزرق، وتشكّل امتدادًا للعاصمة.
وفى المقابل، تعمل ميليشيا الدعم السريع على تشكيل حكومة موازية، وقامت مع الجماعات الإرهابية المتحالفة معها الشهر الماضى بتوقيع ما وصفته بالميثاق السياسى فى العاصمة الكينية نيروبى.
.. وتبقى الإشارة إلى أن مصر لا تزال مستمرة فى بذل كل ما فى وسعها، لوقف نزيف الدم السودانى، كما لا يزال الموقف المصرى الثابت قولًا وفعلًا يشدد على أن أى حل سياسى حقيقى للأزمة لا بد أن يستند إلى رؤية سودانية خالصة، دون إملاءات أو ضغوط خارجية، وفى إطار احترام مبادئ سيادة السودان ووحدة وسلامة أراضيه، والحفاظ على الدولة ومؤسساتها. ولعلك تتذكر أن الرئيس عبدالفتاح السيسى أكد، فى سياقات ومناسبات مختلفة، أن النزاع يخص الأشقاء السودانيين، وأن دور الأطراف، الدولية أو الإقليمية، ينبغى أن يقتصر على مساعدتهم فى إيقافه وتحقيق التوافق حول حل الأسباب التى أدت إليه.