عودة إسرائيل إلى شن العدوان على قطاع غزة مجددًا وبهذا العنف يذهب تفسيره إلى مستويات عدة، لكن هناك محورين أساسيين يفسران ذلك؛ أولهما أسباب سياسية بحتة تتعلق بأداء الحكومة الإسرائيلية وقرارات نتنياهو نفسه الأخيرة، وثانيهما الضغط على حركة حماس للوصول إلى إتفاق يحقق رغبات نتنياهو والإدارة الأميركية.
نعلم أن الولايات المتحدة ضغطت على نتنياهو لقبول هدنة ١٩ يناير الماضي، لكنه رفض تمامًا بدء التفاوض على المرحلة الثانية التي تنص على وقف إطلاق النار وانسحابه من غزة، وأصر بدعم وبتواطؤ من إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على تمديد المرحلة الأولى فقط؛ بمعنى أن تطلق حماس الأسرى وأن تستمر إسرائيل في إحتلال غزة عمليًا.
نتنياهو عندما استأنف العدوان على غزة فإنه يتهرب من الملاحقات الداخلية المرتبطة بإقالة رئيس جهاز الأمن الداخلي (الشاباك) رونين بار، والخوف من إحتمالية انفراط عقد الحكومة الإسرائيلية الحالية، وعدم قدرتها على تمرير قانون الموازنة نهاية الشهر الحالي، والحرب تضمن وحدة المتطرفين الإسرائيليين ولو على حساب دم أبناء غزة.
الأهداف الإسرائيلية ومن وجهة نظري أرى أن بعضها تكتيكي وبعضها إستراتيجي، وأولها وأهمها أن نتنياهو يريد ممارسة أقصى أنواع الضغوط على حركة المقاومة حتى تقبل بشروطه التعجيزية، وهي بإختصار أن تسلمه الرهائن الأحياء والأموات من دون أي مقابل، بحيث تعود مرة أخرى لاستئناف العدوان واحتلال القطاع إن أمكن، لأن عدوان أول أمس معناه التفاوض بالنار أو مع استمرار النار، رهانًا على أن حركة حماس ستقبل الشروط الإسرائيلية.
ومن أهم أهداف إسرائيل من جراء العدوان الحالي هو تعطيل المبادرة المصرية التي صارت عربية وأقرتها القمة العربية الطارئة التي شهدتها القاهرة في ٤ مارس الحالي، وتتضمن بالأساس إعادة إعمار قطاع غزة، من دون تهجير الفلسطينيين منه؛ وهذه الخطة نالت ليس فقط إجماعًا عربيًا وإسلاميًا، بل ودوليًا كاسحًا.
العدوان الجديد يستهدف وقف الزخم والتأييد للمبادرة التي لا تسقط فقط مخطط التهجير، ولكن تتيح مدخلًا جيدًا لإقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو ١٩٦٧.
كما أن إسرائيل لديها هدف تكتيكي أيضًا من جراء إستئناف العدوان على غزة وهو أن العدوان يتيح إرضاء التيار المتطرف داخل الحكومة وعودة بن غفير إليها، وبالتالي عدم تفكك حكومة نتنياهو، وكذلك ضمان تمرير الميزانية التي تواجه مشاكل وصعوبات كثيرة.
ومن أهداف إسرائيل الإستراتيجية بإمتياز جراء إستئناف القتال في القطاع هو ضمان إمكانية تنفيذ مقترح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي طرحه في ٢٩ يناير الماضي بطرد سكان وأهل غزة من أرضهم نهائيًا إلى مصر والأردن وأماكن أخرى، صحيح أن ترامب تراجع قبل أيام من كلامه وقال: «لا أحد يريد أن يطرد أحدًا من غزة» ولكن الحكومة الإسرائيلية لم تفقد الأمل في تنفيذ هذا المخطط الذي يواجه رفضًا عربيًا وإقليميًا ودوليًا واسع النطاق.
إسرائيل أقامت إدارة متخصصة في متابعة عملية التهجير، وكذلك تخصيص ميناء بحري ومطار جوي لترحيل الفلسطينيين بصورة طوعية في البداية لمن يرغب، وحدث بالفعل تواصل إسرائيلي أمريكي مع أقاليم منشقة في الصومال لاستقبال الفلسطينيين.
والجديد أن الجيش الإسرائيلي طلب صباح أول أمس إعادة إخلاء العديد من الأحياء والمدن في قطاع غزة مما يشير إلى احتمال تنفيذ التهجير.
ولا يمكن فهم الإجراءات الإسرائيلية الأخيرة إلا في هذا الإطار، فهي ماطلت في إدخال المساعدات الإنسانية المتفق عليها خلال الهدنة، ورفضت بإصرار إدخال البيوت الجاهزة «الكرافانات» ومعدات إزالة الأنقاض، ومستلزمات المستشفيات، ومنذ بداية مارس الحالي أوقفت إدخال كل أنواع المساعدات، ثم بدأت في وقف تزويد القطاع بالكهرباء، كل ما سبق جرائم حرب موثقة وثابتة هدفها الجوهري استمرار تحويل القطاع إلى مكان غير صالح للحياة.
واستنادًا إلى الضربات الكبرى التي وجهتها الولايات المتحدة للحوثيين في اليمن في الأيام الماضية، فليس مستبعدًا أن تكون من أهداف إسرائيل بعودة الحرب مرة أخرى أن واشنطن وتل ابيب تسعيان لضرب أذرع إيران أو ما بقى منها في اليمن والعراق، أو وقف برنامجها النووي، أو استدراجها إلى صراع مفتوح يتم خلاله توجيه ضربة عسكرية كبرى مشتركة أو إسرائيلية فقط بدعم أمريكي للمنشآت النووية الإيرانية.
وأخيرًا أن يقود استئناف العدوان الصهيوني إلى تحقيق الهدف الأساسي الذي أعلنه نتنياهو ليلة ٢٧ سبتمبر الماضي بعد اغتيال أمين عام حزب الله حسن نصر الله بأن إسرائيل بصدد إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، وللأسف هم نجحوا في بعض النقاط مثل توجيه ضربات قوية للمقاومة وإحتلال المزيد من الأراضي السورية.. هذه هي الأهداف الإسرائيلية من وجهة نظري، ولأنها شديدة الخطورة فهي تتطلب تحركات عربية مختلفة ونوعية، حتى لا نتفاجأ بأن مخطط نتنياهو المدعوم أمريكيًا قد وجد طريقه للتنفيذ.