أعكف حاليًا على دراسة علاقة النقد بالسياسة من خلال ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢. وقد توقفت عند المواقف النقدية لدى كُتاب تلك الفترة الزمنية من الثورة حتى نكسة ١٩٦٧. ووجدت أن الإحساس بالتطور والتغير الذى طرأ على أحوال البلاد السياسية والاجتماعية، والذى طال الأعمال الأدبية بدورها هو العامل الأول فى شحذ هممهم للنقد، فلم يتوان أصحاب الأقلام عن تخليد تلك المرحلة، سواء بالأعمال الأدبية أو النقدية، وسواء كانت تلك الأعمال فى صف الثورة أو ضدها. وكل ما يقال عن فردية الناقد المطلقة غير صحيح، فإنه بمجرد بأن يمسك بالقلم يفكر فيمن سيقرأ أعماله ويحاول جاهدًا أن يتطابق معه ويعى مجتمعه وعيًا كاملًا بكل قضاياه وأحداثه ومشاكله، لسبب بسيط هو أنه اجتماعى بطبعه. ومن ثم كانت مطالبته بأن يكون اجتماعيًا فى أدبه مطالبة طبيعية، أما أن يتخلى عن قضايا مجتمعه فإن ذلك يعد شذوذًا وانحرافًا وانسياقًا نحو ضرب من الانعزال من شأنه أن يفت فى عضد المجتمع.
وقد شهدت حقبتا الخمسينيات والستينيات رواجًا على مستوى الوجوه الأدبية التى أثرت المكتبة العربية بإبداعات نقدية وأدبية خالدة، وظهور عدد كبير من نجوم الأدب الذين تلمع أسماؤهم حتى الآن كمؤسسين لأدب وطنى بلغ العالمية، من أمثال نجيب محفوظ ويوسف إدريس وخيرى شلبى وإبراهيم أصلان وإحسان عبدالقدوس.. كانت هذه المرحلة مرحلة فارقة فى تاريخ الأدب المصرى والعربى بشكل عام، حيث شهدت نضجًا عظيمًا لا سيما فى النقد، خاصة بعد قيام ثورة يوليو، التى كتب المؤرخ عبدالرحمن الرافعى عنها، قائلًا: كما أثرت ثورة يوليو فى شكل الحياة السياسية، وانعكس تأثيرها أيضًا، على مجالات الحركة الأدبية والنقدية والفكرية بشكل مباشر، فهناك علاقة وطيدة بين الفن والسياسة، الأول لا يمكن أن يحقق وظيفته الاجتماعية إلا إذا كان سياسيًا، فالفنان والناقد والأديب لا بد أن تكون لديه عقيدة سياسية مواكبة لتطورات الحركة الاجتماعية. ومن واجب الأديب أن يصارع مع أمته، وأن يكون جزءًا حيويًا فى هذا الصراع، بل جزءًا متداخلًا فيه يستمد منه بواعثه وأفكاره، ويرتبط به ارتباطًا قويًا. أما أن ينفصل عنه ويعيش لنفسه فإنه يتخلى عن مسئوليته إزاء المجتمع الذى يستمد منه حياته ويصبح أدبه لونًا من ألوان الترف لا أداة من أدوات الحياة. ومن أجل ذلك ينبغى أن يتخلص الأديب من كل ما هو فردى محض وأن يحقق الصلة بينه وبين أمته فى كل ما يصدر عنه، بحيث يكون أدبه دعامة من دعائم حياتها بكل ما يجرى فيها من ألم وأمل وشقاء وسعادة. ومن هنا اعترف الجميع بأن ثورة يوليو أحست بنبض الجماهير. بالتالى انطلقت معها ثورة الإبداع والمبدعين، خاصة النقاد.
وحينما شبت ثورة ١٩٥٢ واكبها ازدهار أدبى وفكرى، بل مهد لها أيضًا، واستمر أعلام الأدب ورواد الفكر يحتلون القمم العالية فى الحياة الفكرية والأدبية طوال هذه الفترة، وكانت الصحافة هى نافذة تلك الحياة الفكرية والأدبية على العالم، ففتحت لها ميادين كانت مغلقة أو مجهولة من قبل، وغذتها بموضوعات وقضايا جديدة، ووهبتها حياة ومرونة، وقابلية للتعبير عن كل مكنون، سواء بالسرد المباشر أو بالإسقاطات الرمزية، فشحذت الألسنة وأنضجت الأقلام، وأتيح للأصوات أن ترتفع، وسمحت الصحافة للأقلام أن تصول وتجول.
من المؤكد أننا لا نستطيع فهم أحداث الثورة دون دراسة الأدب المؤرخ لها بسلبياتها وإيجابيتها، وأحوالها الاجتماعية، كما جسد الأدب حلم الاستقلال والتقدم، قبل النكسة التى ضربت أقلام الأدباء فى مقتل، فأشعار صلاح جاهين وعبدالرحمن الأبنودى بعد الثورة كانت خير تعبير عن آلام وأحلام المصريين آنذاك، بالإضافة إلى روايات الثورة التى تعرفنا من خلالها على الثورة، مثل كتابات أمين يوسف غراب، وإحسان عبدالقدوس، ويوسف إدريس، ونجيب محفوظ، ويوسف السباعى، وكتابات سعد الدين وهبة، ونعمان عاشور فى المسرح، التى انتقدت الثورة وبينت ما فيها من أخطاء.
لقد ارتبط الأدب بالسياسة دائمًا، وارتبط بالحزبية أحيانًا، فقد كانت الأحزاب السياسية فى مصر ثمرة من ثمار الصحافة، ونشأت من قلب الصحف المصرية. وانقسم الأدباء بين مؤيد ومعارض للثورة، فأصبح منهم من يُعظم الثورة فى أعماله الأدبية، مثل يوسف السباعى، الذى مجد الثورة فى أعماله ومنها رواية «رد قلبى»، ومنهم من حط من شأن الثورة ورأى أنها حركة طموحة لم تضف جديدًا والعقاد من رواد هذه المدرسة، وعلى الصعيد الآخر ظهرت فى تلك الفترة أعمال حذرت من غيبة الحريات ومصادرة حرية الأفراد، كما نددت بالإجراءات التى اتكأت عليها الثورة، وفى طليعة هؤلاء نجيب محفوظ، الذى أدان الثورة فى أعماله مثل «السمان والخريف، وثرثرة فوق النيل، واللص والكلاب» حتى إنه صدر أمر بالقبض عليه لولا أن تدخل الرئيس جمال عبدالناصر وأوقف أمر القبض عليه.
وكان كل ناقد أو أديب يرى الأمور من زاويته، ولكل شىء فى الحياة إيجابيات وسلبيات، لذلك صدرت مئات الكتب، لتتناول ثورة ٢٣يوليو بالتحليل والرصد والنقد، والوقوف على أسباب قيامها ونتائجها ومميزاتها وعيوبها.
ولم يسطر النقاد كتبهم فقط لتناول الثورة، بل امتد الأمر لرؤساء مصر السابقين، الذين كتبوا شهاداتهم ومذكراتهم ككتاب فلسفة الثورة، وخواطر جمال عبدالناصر، وكتاب محمد نجيب، كنت رئيسًا لمصر، ولم تخل الساحة من كتابات المثقفين والأدباء والروائيين الذين حكوا عن الثورة ضمن أحداث رواياتهم، ليمتزج الواقع الاجتماعى والإنسانى بالثورة، بل تجسدت هذه الروايات على شاشات السينما.
وقد تباينت مواقف النقاد تجاه أحداث ثورة ٢٣ يوليو، بين مؤيد ومعارض. وبينما اتسمت مواقف بعضهم بالتحفظ تجاه الثورة فى البداية ثم تحولت تدريجيًا إلى تأييدها، وقف فصيل منهم، الذين كانوا على مقربة من الملك فاروق وأعوانه فى الجهة المقابلة المتحفظة والرافضة تلك الثورة، وانعكست مواقف النقاد على صفحات الصحف فى الأيام الأولى للثورة على الوضع الصحفى اللاحق بعد نجاحها، وذلك باستمرار الصحف المؤيدة فى الصدور، بل تحول بعضها إلى مُعبر عن الثورة ونظامها.
وللحديث بقية..