تشهد الأسواق المالية المحلية في الآونة الأخيرة تذبذبًا حادًا وغير مسبوق في أسعار الدولار والذهب، وهو ما يثير تساؤلات متزايدة حول الأسباب الفعلية لهذا التراجع، ومدى تأثيره على خيارات المستثمرين خلال الفترة المقبلة، خاصة في ظل تغير السياسات النقدية العالمية وتبدّل أولويات الاستثمار.
تراجع أسعار الدولار: أسباب ودلالات
شهد الدولار الأمريكي انخفاضًا ملحوظًا عالميًا خلال الأشهر الماضية، نتيجة مجموعة من العوامل الاقتصادية والسياسية، يأتي في مقدمتها الحرب التجارية التي أطلقتها الإدارة الأمريكية السابقة برئاسة دونالد ترامب، حيث أثرت تلك السياسات سلبًا على مؤشر الدولار أمام العملات الأخرى.
كما ساهم تحول اهتمام المستثمرين نحو السندات والعملات البديلة في زيادة المعروض من الدولار عالميًا، مما أدى إلى انخفاض قيمته السوقية. ويلاحظ أن البنوك المركزية في العديد من الدول قد بدأت تقليص حيازتها من الدولار، ما ساعد بدوره في الضغط على العملة الأمريكية.
الذهب يفقد بريقه تدريجيًا
أما الذهب، الذي طالما اعتُبر ملاذًا آمنًا في أوقات الأزمات، فقد بدأ يشهد تراجعًا نسبيًا في قيمته، مدفوعًا بانخفاض الطلب العالمي. ويرجع ذلك إلى اتجاه كثير من المستثمرين إلى الأسواق الأكثر استقرارًا، وخاصة الدول التي تقدم عوائد مصرفية مرتفعة على المدخرات مثل مصر وتركيا. وقد انعكس ذلك على خريطة توزيع رؤوس الأموال، التي انتقلت من الأصول الثابتة كالذهب إلى الودائع وشهادات الادخار ذات العائد الجذاب.
وأكد محمد صلاح، رئيس التشغيل في شركة "سبائك"، في تصريحات لـ “الدستور” أن الذهب قد يفقد مكانته التقليدية كملاذ آمن، نتيجة للتذبذبات الحادة التي أصبحت سمة واضحة في حركته اليومية. وأشار إلى أن قرارات ترامب بالدخول في حروب جمركية متزامنة مع العديد من الدول ساهمت في تراجع الدولار، وهو ما أثر بشكل غير مباشر على صعود الذهب في فترات معينة.
السوق المصري بين الدولار والذهب: علاقة متداخلة
في مصر، تبرز علاقة طردية بين سعر صرف الدولار وسعر الذهب، إذ أن أي تغير في أحدهما يؤدي إلى تحرك في الاتجاه نفسه بالنسبة للآخر. خلال الأشهر الماضية، انخفض الدولار بقيمة تجاوزت جنيهًا كاملًا، ليستقر في نطاق 50 جنيهًا، ويعود ذلك إلى تحسن احتياطي النقد الأجنبي، وعودة تدفقات الأموال الساخنة إلى السوق المحلي.
ومع تراجع الدولار، شهدت أسعار الذهب انخفاضًا ملموسًا داخل السوق المصري أيضًا، مدفوعة بانخفاض الطلب العالمي، وتوجه المستثمرين إلى البدائل المصرفية الأكثر استقرارًا. وقد ساهمت شهادات الادخار البنكية، ذات العوائد المرتفعة التي وصلت سابقًا إلى 27%، في جذب شرائح كبيرة من المواطنين والمستثمرين.
مستقبل الدولار والذهب.. بين السياسات النقدية وتحولات السوق
يتوقع خبراء الاقتصاد أن تستقر أسعار الدولار والذهب نسبيًا خلال الفترة المقبلة، شريطة أن تحافظ البنوك المركزية – وعلى رأسها البنك المركزي المصري – على سياسة نقدية مرنة ومتوازنة. وتُشير التوقعات إلى إمكانية خفض سعر الفائدة في مصر إلى ما بين 6% و8% خلال الأشهر القادمة، الأمر الذي من شأنه تعزيز الاستثمارات المصرفية، وتقليل الإقبال على الذهب كأداة للادخار.
ومن المرجح أن تستمر أسعار الذهب في التراجع مع استمرار التركيز على أدوات التمويل البنكي، خاصة مع غياب الشهادات ذات الفائدة المرتفعة في السوق حاليًا، وهو ما يعكس تحولًا تدريجيًا نحو نمط استثماري طويل الأجل وأكثر استقرارًا.
ترامب وتأثيره التاريخي على الأسواق
منذ تنصيب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة، ارتفعت أسعار الذهب بنحو 22% خلال أول 100 يوم فقط من ولايته، محققة 28 قمة تاريخية جديدة. وقد شهدت الأسواق الأميركية خلال نفس الفترة أسوأ أداء لها منذ عقود، إذ تراجع مؤشر S&P 500 بنسبة 7.9%، وهو ما اعتبر ثاني أسوأ بداية لفترة رئاسية أميركية منذ السبعينيات، بعد الفترة الثانية للرئيس ريتشارد نيكسون في عام 1973.
وقد كشفت تقارير شركات الأبحاث مثل CFRA أن المخاوف السياسية والتوترات الجيوسياسية دفعت المستثمرين إلى الهروب نحو الذهب، لكن الأحداث الأخيرة أظهرت أن حتى هذا الملاذ لم يعد بمنأى عن التذبذبات الحادة، بعد أن ارتفع سعر أونصة الذهب بـ250 دولارًا في جلسة واحدة ثم انخفض بنفس المقدار في الجلسة ذاتها، وهو ما يُبرز هشاشة الثقة حتى في أكثر الأدوات الاستثمارية أمانًا تقليديًا.
خلاصة المشهد: حذر في السوق واستثمار مدروس
يبقى المشهد الاقتصادي مرهونًا بالسياسات النقدية القادمة وسلوك المستثمرين العالميين. في الوقت الذي يتراجع فيه الذهب والدولار سويًا، يبدو أن القطاع المصرفي، مع ما يقدمه من أدوات ادخارية واستثمارية مستقرة، قد يكون الوجهة الأكثر أمانًا خلال الفترة المقبلة، خصوصًا مع حالة عدم اليقين التي تسيطر على الأسواق العالمية.