أخبار عاجلة

ترامب بعد الـ100: رجل واحد في مواجهة العالم - نجوم مصر

قبل مائة يوم فقط، كان مشهد عودة دونالد ترامب إلى المكتب البيضاوي أشبه بعاصفة سياسية غير مسبوقة: رئيس أمريكي سابق يعود إلى السلطة بعد تغلبه على محاولتي عزل في الكونغرس وإدانة جنائية وحتى محاولتي اغتيال. في 20 يناير 2025، أدى ترامب اليمين الدستورية كرئيس للولايات المتحدة للمرة الثانية، معلنًا بداية فصل جديد مثير للجدل في التاريخ السياسي الأمريكي. 

وخلال فترة المائة يوم الأولى من ولايته الجديدة، فرض ترامب إيقاعه الخاص على واشنطن؛ فمن القرارات التنفيذية المتتالية التي أمطر بها الساحة السياسية، إلى خطابه الإعلامي الناري الذي أشعل به الجدل، وجد الأمريكيون أنفسهم أمام نسخة مألوفة ومتجددة من ترامب،  نسخة تجمع بين الثقة الجامحة في النفس والإصرار على قلب الأوضاع رأسًا على عقب. 

ما ملامح شخصية وأداء «ترامب» خلال هذه الفترة، وما أبرز قراراته التنفيذية والتشريعية، وكيف قيّم الداخل الأمريكى أداءه من منظور الحزبين الجمهورى والديمقراطى، وكيف كانت توجهاته فى السياسة الخارجية وردود الأفعال الدولية عليها؟، فضلًا عن ملامح الانقسام أو الدعم الشعبى الذى حظى به، مع مقارنة أسلوبه ونهجه الآن بما كان عليه فى ولايته الأولى «٢٠١٧- ٢٠٢١»، هذا ما نحاول الإجابة عنه خلال السطور التالية.

ارتجالى وعنيف وكاسر للأعراف.. ويظهر كأنه مدير تنفيذى لشركة وليس رئيسًا 

منذ اللحظات الأولى لعودته إلى البيت الأبيض، بدا ترامب وفيًا لصورته المعهودة: زعيم بشخصية صاخبة لا تتردد في كسر الأعراف ومواجهة الخصوم بحدّة أمام الملأ. فقد حرص على العودة بقوة إلى منصات التواصل الاجتماعي بعد استعادة حساباته الرسمية، مخاطبًا أنصاره مباشرة ومثيرًا العواصف الإعلامية المعتادة حول تغريداته وتصريحاته. حتى منصات التواصل نفسها لم تسلم من إثارة الجدل؛ إذ فوجئ ملايين المستخدمين بأنهم أصبحوا يتابعون حسابات ترامب الرسمية على فيسبوك وإنستغرام تلقائيًا بعد انتقالها إليه، ما أثار استياء منتقديه ودفع شركة "ميتا" للتبرير بأن الأمر جزء من آلية بروتوكولية لنقل الحسابات الرئاسية​. 

وعلى المنابر الإعلامية التقليدية، واصل ترامب أسلوبه التصادمي مع الصحافة. فهو نادرًا ما يعقد مؤتمرات صحفية رسمية مطولة، ويفضّل اللقاءات الودية مع وسائل إعلام حليفة، لكن عندما يواجه أسئلة الصحافيين الناقدين لا يتورع عن المشاكسة والهجوم. فعلى سبيل المثال، في أحد مؤتمراته الصحفية المبكرة اتهم ترامب سياسات التنوع الوظيفي (DEI) في قطاع الطيران بأنها سبب تحطم طائرة ركاب أمريكية مؤخرًا، قائلًا إن “اعتماد معايير التنوع أدى إلى توظيف طيارين غير أكفاء”، ثم وبّخ مباشرةً مراسلة شبكة CNN كايتلان كولينز عندما اعترضت على طرحه، مؤكدًا لها أنه يستند إلى “المنطق السليم” في حكمه هذا​. مشهد كهذا أعاد للأذهان أسلوب ترامب الهجومي في ولايته الأولى، حيث يصنع هو الخبر ويقود دفة الحوار عبر تصريحات مفاجئة وجدلية.

على الصعيد السياسي الداخلي، أظهر ترامب أنه ما زال اللاعب نفسه الذي يقلب الطاولة على خصومه متى شاء. لم يتغير كثيرًا نهجه في المطالبة بالولاء المطلق من فريقه وحزبه؛ إذ أحاط نفسه منذ اليوم الأول بمسؤولين ومساعدين معروفين بالولاء الشخصي لنهجه. وقد لاحظ المراقبون غياب الوجوه "المعتدلة" أو التقليدية في الإدارة الجديدة مقابل صعود شخصيات من الدائرة المقربة لترامب، حتى أن مناصب حساسة أُسندت إلى شخصيات مثيرة للجدل بسبب ولائها الصارخ له، مثل تعيين النائب المحافظ مات غويتز وزيرًا للعدل، والعضوة السابقة في الكونغرس تولسي غابارد مديرةً للاستخبارات الوطنية​. 

هذه التعيينات عكست إصرار ترامب على تطهير الإدارة من الأصوات المخالفة وتأمين سيطرة تامة له على مفاصل الحكم. ومن خلال أسلوب قيادته اليومي، ظهر ترامب وكأنه مدير تنفيذي يدير مؤسسة خاصة أكثر منه رئيس حكومة تقليدي؛ يعقد الاجتماعات والاتصالات بصورة مرتجلة أحيانًا، ويصدر التعليمات المباشرة عبر وسائل غير رسمية. ورغم ذلك، لا يمكن إنكار نجاحه في فرض إيقاعه على جدول الأعمال الوطني يوميًا،  إذ يجد الجميع أنفسهم، حلفاء وخصومًا، مضطرين لمجاراة عناوين ترامب وتغريداته بدلًا من التركيز على قضايا أخرى.

قرارات تنفيذية وتشريعية في 100 يوم عاصف

سرعان ما ترجم ترامب شعاره الشهير "أمريكا أولًا" إلى حزمة إجراءات وقرارات ملموسة، جعلت من المائة يوم الأولى لولايته الثانية فترة حافلة بشكل غير اعتيادي. فخلال هذه الأسابيع القليلة أصدر ترامب سيلًا من الأوامر التنفيذية الرئاسية بوتيرة قياسية تجاوزت كل من سبقه في المنصب خلال نفس المدة​؛ إذ وقع عشرات الأوامر والمذكرات الرئاسية متناولًا بها طيفًا واسعًا من السياسات الداخلية والخارجية. وقد وصف مستشار مقرب منه هذه الإستراتيجية بأنها حملة "صدمة وترويع" تنظيمية تهدف لإعادة تشكيل الحكومة الفدرالية بسرعة​.

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يوقع أمرا تنفيذيا
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يوقع أمرا تنفيذيا

في اليوم الأول فقط، شرع ترامب في تفكيك إرث سلفه جو بايدن عبر سلسلة قرارات خاطفة. وقع أمرًا تنفيذيًا لإلغاء انضمام الولايات المتحدة إلى اتفاقية باريس للمناخ للمرة الثانية، منهيا بذلك مشاركة أمريكا في الجهد العالمي لمكافحة الاحتباس الحراري​. كما أعلن انسحاب واشنطن الفوري من منظمة الصحة العالمية، مجددًا اعتراضه على أسلوب إدارة المنظمة لجائحة كورونا وغيرها​. وأمر بوقف تمويل عدد من البرامج الاتحادية المرتبطة بقضايا التغير المناخي، مثل حل "فيلق المناخ" الذي كان قد أُنشئ في عهد بايدن​، وتجميد صرف أموال مخصصة لمشاريع الطاقة النظيفة ضمن خطة خفض التضخم بحجة مراجعة جدواها. هذه الخطوات السريعة أكدت أن ترامب عازم على قلب سياسات حقبة بايدن رأسًا على عقب منذ اللحظة الأولى.

في ملف الهجرة، اندفع ترامب لتنفيذ وعوده بحزم غير مسبوق. فإلى جانب إعادته العمل بسياسات حظر السفر المثيرة للجدل على مواطني بعض الدول،  مع توسيع القائمة لتشمل دولًا أخرى يعتبرها “عالية الخطورة”،  أصدر أمرًا تنفيذيًا يسعى لإنهاء سياسة منح الجنسية بالولادة (Birthright Citizenship) للأطفال المولودين على الأراضي الأمريكية من والدين غير حاصلين على إقامة شرعية. هذه الخطوة أحدثت صدمة في الأوساط الحقوقية، إذ اعتبرها كثيرون مخالفة واضحة للتعديل الرابع عشر من الدستور الأمريكي، ما أدى إلى تعبئة سريعة للطعن بها أمام المحاكم. وإمعانًا في تشديد سياسة الهجرة، أمر ترامب بنشر المزيد من قوات الحرس الوطني على الحدود مع المكسيك ودعم توسيع مراكز احتجاز المهاجرين هناك. 

كما صنّف في إجراء لافت عصابات تهريب المخدرات المكسيكية كمنظمات إرهابية أجنبية، فاتحًا الباب أمام سلطات أوسع للتعامل معها. ولم يمضِ وقت طويل حتى دفع أنصاره في الكونغرس إلى صياغة تشريع جديد صارم للهجرة: فبحلول 29 يناير، وقّع ترامب على أول قانون يُقر في عهده الثاني، وهو قانون حمل اسم "لايكن رايلي" تكريمًا لطالبة تمريض قُتلت على يد مهاجر غير نظامي عام 2024​. يُلزم هذا القانون وكالة الهجرة والجمارك  (ICE) باحتجاز المهاجرين غير الشرعيين قيد الاعتقال لحين ترحيلهم أو البت النهائي في قضاياهم دون إخلاء سبيل مشروط، منهيا فعليًا سياسة “القبض والإفراج” السابقة​. وعلى نحو متصل، أصدر ترامب تعليمات لوزارة الدفاع بالعمل على توسعة منشآت الاحتجاز في قاعدة غوانتانامو لاستيعاب أعداد أكبر من المهاجرين غير الشرعيين رهن الاحتجاز إذا اقتضى الأمر​،  وهي خطوة غير معهودة أثارت جدلًا حول استخدام موقع مخصص للمشتبهين بالإرهاب لإيواء مهاجرين مدنيين.

امتدت القرارات التنفيذية لترامب لتشمل السياسات الاجتماعية والثقافية داخل الولايات المتحدة أيضًا. فقد سارع إلى إلغاء مبادرات التنوع والدمج الوظيفي (DEI) التي أطلقت خلال الإدارات السابقة، وأصدر توجيهات صريحة بأن تعتمد الوكالات الفدرالية التصنيف الثنائي للجنس البيولوجي (ذكر/أنثى) فقط في كافة سجلاتها ووثائقها الرسمية، ملغيًا بذلك سياسات الاعتراف بغير الثنائيين جنسيا أو بالهويات الجندرية المتحولة في العمل الحكومي. وأردف ذلك بأمر تنفيذي آخر لحظر مشاركة الرياضيين المتحولين جنسيًا في المسابقات الرياضية النسائية على مستوى المدارس والجامعات التي تحصل على تمويل فدرالي​، مبررًا الخطوة بضرورة “حماية الرياضة النسائية”. هذه القرارات نالت إشادة المحافظين الاجتماعيين، لكنها قوبلت بانتقادات حادة من جماعات الحقوق المدنية ومجتمع الميم اللذين اعتبروها تمييزية وتقويضًا للتقدم الذي أُحرز في السنوات الماضية​. 

اقتصاديًا، أعاد ترامب إشعال فتيل الحروب التجارية التي ميّزت ولايته الأولى. ففي أواخر فبراير، فاجأ الأسواق بفرض تعريفات جمركية جديدة على واردات الولايات المتحدة من عدة دول حليفة وخصمة على حد سواء. فرضت إدارته تعريفات بنسبة 10% على واردات الطاقة من كندا، ورسومًا جمركية إضافية على سلع صينية ومكسيكية، بحجة حماية الصناعات الأمريكية والعمالة المحلية​. ولم يتأخر شركاء واشنطن في الرد؛ إذ أعلنت كندا على الفور إجراءات انتقامية شملت فرض رسوم مضادة على سلع أمريكية بقيمة مليارات الدولارات​. 

أثار هذا التصعيد التجاري قلق مجتمع الأعمال الأمريكي وبعض المشرعين الجمهوريين من الولايات الزراعية والصناعية التي قد تتضرر صادراتها، وإن التزم معظمهم الصمت العلني دعمًا لنهج ترامب التفاوضي الصارم. وبرر البيت الأبيض هذه الخطوات بأنها ورقة ضغط لإعادة التفاوض على اتفاقيات “أكثر إنصافًا” لأمريكا، مؤكدًا أن سياسة الرسوم قابلة للتراجع في حال “تصحيح الشركاء لممارساتهم غير العادلة.

في ميدان السلطة التنفيذية ذاته، لم يتردد ترامب في استخدام صلاحية العفو الرئاسي المثيرة للجدل على نحو حاسم منذ البداية. فوفاءً بوعد قطعه خلال حملته الانتخابية، وقع ترامب في يومه الأول سلسلة من قرارات العفو التي شملت إطلاق سراح أو تخفيف أحكام نحو 1500 شخص من المدانين في قضايا اقتحام مبنى الكابيتول في 6 يناير 2021​. هذا العفو الجماعي غير المسبوق عن مشاركين في أحداث وصفت بالخيانة والعنف أثار عاصفة سياسية، حيث اعتبره الديمقراطيون وعدد من المستقلين تبييضًا لأسوأ اعتداء على الديمقراطية الأمريكية في العصر الحديث. 

حتى بعض حلفاء ترامب الجمهوريين أبدوا تحفظًا حذرًا؛ فنائب الرئيس الجديد ج.د. فانس نفسه (وهو سناتور سابق داعم لترامب) نصح بشكل غير علني بأن يُستثنى من العفو من ارتكبوا أعمال عنف خطيرة​. لكن ترامب مضى قدمًا دون تردد، مانحًا عفوًا كاملًا حتى لمن أدينوا بالاعتداء على ضباط الشرطة في ذلك اليوم​. برر البيت الأبيض الخطوة بأنها “طي لصفحة ماضية من اضطهاد سياسي” وإصلاح للظلم الواقع بحق “مواطنين غيورين أخطأوا التقدير” حسب تعبير ترامب، بينما حذر منتقدون من أن شمول العفو للمعتدين العنيفين قد يشجّع التطرف اليميني ويرسل رسالة تساهل مع محاولة قلب نتائج الانتخابات بالقوة.

التقييم الداخلي: مواقف الجمهوريين والديمقراطيين

بعد 100 يوم من حكمه، بدا المشهد الداخلي الأمريكي منقسمًا بشدة في تقييمه لأداء ترامب. فعلى الضفة الجمهورية، يحظى الرئيس بدعم شبه مطلق من قادة حزبه وقاعدته المحافظة. أغلبية الجمهوريين في الكونغرس تبنّوا قرارات ترامب واصطفّوا خلفه علنًا، معتبرين إياه يُنفّذ برنامجًا منتخبًا من الشعب ويعيد البلاد إلى “المسار الصحيح” بعد سياسات الديمقراطيين. وروى أحد أعضاء الكونغرس الجمهوريين بصورة طريفة أن مزاج زملائه يمكن تلخيصه بالقول: "إذا قال لنا ترامب اقفزوا، نسأل: إلى أي ارتفاع؟"، في إشارة إلى استعدادهم لتنفيذ أجندته دون تردد. هذا الالتفاف الحزبي حول ترامب تعزّز بحقيقة أن الحزب الجمهوري يسيطر على مجلسي الشيوخ والنواب خلال هذه الفترة، ما أتاح لترامب تمرير تعييناته الحكومية وإقرار التشريعات التي يريدها بسرعة قياسية ودون معارك برلمانية تذكر.

وبينما عبّر عدد قليل من المحافظين التقليديين بهدوء عن قلقهم من بعض الخطوات (مثل التصعيد التجاري الذي أقلق الأوساط الاقتصادية في ولاياتهم، أو شمول العفو الرئاسي لمتورطين بأعمال عنف)، فإن أيًا من هؤلاء لم يشأ خرق وحدة الصف علنًا. على العكس، وجدنا قيادات الحزب،  من زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ إلى رئيس مجلس النواب،  يشيدون بقيادة ترامب “الحازمة” ويصفون إنجازاته المبكرة بأنها “غير مسبوقة منذ عقود” في إعادة تشكيل السياسات الداخلية والخارجية للولايات المتحدة.

في المقابل، رسم الديمقراطيون صورة قاتمة ومقلقة لما يقوم به ترامب في السلطة. قيادات الحزب الديمقراطي ومسؤولوه،  سواء داخل الكونغرس الذي صاروا أقليّة فيه، أم على مستوى الولايات التي يقودون حكوماتها،  اتهموا ترامب باتباع نهج خطير وتدميري للمؤسسات والقيم الأمريكية. ففي خطاب لاذع بعد ما يقرب من 90 يومًا على تنصيب ترامب، خرج الرئيس السابق جو بايدن عن صمته ليصف ما يحدث بأنه “دمار وخراب مذهل خلال فترة لم تتجاوز المائة يوم”​. وانتقد بايدن بشدة محاولات الإدارة الجمهورية تقليص برامج الضمان الاجتماعي كالتأمين الصحي والتقاعد، قائلًا إن ترامب وحلفاءه “يستخدمون معولًا لهدم شبكة الأمان الاجتماعي” عبر تسريح الآلاف من موظفي الضمان الاجتماعي وتقليص الخدمات المقدمة لكبار السن​. 

كما ندد الديمقراطيون بعملية تطهير المؤسسات الحكومية من الكفاءات المستقلة، في إشارة إلى قيام ترامب بإقالة جماعية لعدد من المفتشين العامين (مراقبي نزاهة الأجهزة الحكومية) في ما لا يقل عن 17 وكالة فدرالية دفعةً واحدة​. اعتُبر ذلك الإجراء محاولة لإسكات أصوات الرقابة الداخلية ومنع أي تحقيقات محايدة في مخالفات محتملة بالإدارة،  وهو ما دفع نوابًا ديمقراطيين للمسارعة بالمطالبة بتحقيقات في قانونية هذه الإقالات​.

على صعيد الولايات والمجتمع المدني، تحرك الديمقراطيون وحلفاؤهم على عدة جبهات لمقاومة أجندة ترامب. قام عدد من حكام الولايات الزرقاء (الديمقراطية) بإصدار أوامر تنفيذية محلية تحاول التخفيف من آثار سياسات الحكومة الفدرالية، مثل إنشاء صناديق تمويل بديلة لدعم برامج الطاقة النظيفة التي قطع ترامب تمويلها، أو سن تشريعات على مستوى الولاية لحماية حقوق المتحولين جنسيًا في الرياضة والتعليم رغم الحظر الفدرالي. 

وإلى جانب ذلك، لجأت شخصيات ومنظمات ليبرالية إلى القضاء لكبح ما تراه تجاوزات: ففي الأسابيع الأولى رفعت دعاوى قضائية متعددة تطعن في دستورية قرارات ترامب بشأن الهجرة والجنسية والبيئة وغيرها، وقد نجح بعضها مبدئيًا في استصدار أوامر قضائية مؤقتة لتعليق تنفيذ سياسات مثيرة للجدل (مثل الأمر التنفيذي الخاص بإنهاء حق الجنسية بالولادة، الذي أوقفه قاضٍ فيدرالي مؤقتًا بانتظار البت فيه دستوريًا). 

ورغم أن سيطرة الجمهوريين على الكونغرس حدّت من قدرة الديمقراطيين تشريعيًا على عرقلة أجندة ترامب، فإن نواب الحزب الديمقراطي في مجلسي النواب والشيوخ حرصوا على تسجيل اعتراضاتهم في كل مناسبة. لم يمرّروا فرصة إلا ونددوا فيها،  خلال جلسات الاستماع أو البيانات الصحفية،  بما سموه “نزعة استبدادية” في طريقة حكم ترامب، بدءًا من استخدامه المفرط للأوامر التنفيذية وصولًا إلى استهدافه العلني لخصومه السياسيين. وزعيم الأقلية الديمقراطية في مجلس النواب حكيم جيفريز وصف نهج ترامب بأنه "حكم الشخص الواحد" محذرًا من أنه يقوض نظام الضوابط والتوازنات الذي يقوم عليه الدستور الأمريكي.

هكذا، وجدت الولايات المتحدة نفسها من جديد أمام حالة استقطاب حاد: معسكر جمهوري يرى في ترامب قائدًا يفي بوعوده ويستعيد قوة البلاد وهيبتها، ومعسكر ديمقراطي يراه خطرًا محدقًا بالديمقراطية الأمريكية ومعاييرها الراسخة. هذا الانقسام الحزبي الرسمي انعكس بقوة في الشارع الأمريكي، الذي شهد بدوره حراكًا واسعًا خلال المائة يوم، بين مظاهرات واعتصامات منددة، وتجمعات حاشدة مؤيدة، في مشهد يكاد يكرر سنوات رئاسة ترامب الأولى لكن بوتيرة أشد سخونة هذه المرة.

السياسة الخارجية: توجهات "أمريكا أولًا" وردود الفعل العالمية

مع عودته إلى البيت الأبيض، أعاد ترامب إطلاق رؤيته المعروفة في السياسة الخارجية التي ترفع شعار "أمريكا أولًا" فوق كل اعتبار. تجلت هذه الرؤية في سلسلة قرارات ومواقف غيّرت ملامح انخراط الولايات المتحدة عالميًا خلال 100 يوم فقط، وأثارت ردود فعل متباينة في العواصم الأجنبية. فعلى صعيد العلاقات مع الحلفاء والمؤسسات الدولية، عاد ترامب إلى نهجه الانتقادي للصيغ متعددة الأطراف التي،  برأيه،  “تكبل” الولايات المتحدة. فإضافة إلى انسحابه من اتفاقية باريس للمناخ ومنظمة الصحة العالمية كما أسلفنا​، جمد مساهمات بلاده المالية في عدد من برامج الأمم المتحدة الإنمائية والبيئية، معلنًا أنه سيعيد تقييم جدواها ويطالب الآخرين “بدفع حصتهم العادلة”​.

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب

 ولم يُخفِ ترامب ازدراءه لبعض أوجه الدبلوماسية التقليدية؛ إذ تجاهل عددًا من القمم والاجتماعات الدولية التي عادةً ما يشارك فيها الرؤساء الأمريكيون في بدايات عهدهم، مفضّلًا التركيز على ترتيب لقاءات ثنائية وصفقات مباشرة أكثر انسجامًا مع أسلوبه التجاري في عقد الصفقات. وقد نقل مقربون منه أنه كان يردد في مجالسه الخاصة أن “العالم استغل أمريكا طويلًا وحان وقت التصحيح”.

أحد أهم ملامح سياسة ترامب الخارجية في هذه الفترة تمثل في إعادة صياغة علاقات الولايات المتحدة مع حلفائها التقليديين في أوروبا وحلف شمال الأطلسي (الناتو). فبينما جدد ترامب التزام أمريكا بالدفاع المشترك في الناتو، عاد ليُلحّ بقوة على الدول الأوروبية بضرورة زيادة مساهماتها المالية في الحلف وتقاسم الأعباء العسكرية بشكل أكثر عدالة،  وإلا فإن “على أمريكا أن تفكر في خياراتها” كما ألمح​. أثارت هذه التصريحات قلقًا في العواصم الأوروبية من احتمال تراجع واشنطن عن موقعها القيادي في التحالف الغربي. وحتى يبدد بعض هذه المخاوف، قام رئيس الوزراء البريطاني الجديد كير ستارمر بزيارة مبكرة إلى واشنطن للقاء ترامب شخصيًا في مارس، حيث أكد الأخير مجددًا التزام بلاده تجاه الناتو لكن “بشروط أكثر إنصافًا” للحليف الأمريكي​. رغم ذلك، استمر شعور الحذر والترقب مسيطرًا على دول أوروبا الغربية، خصوصًا فيما يتعلق بموقف إدارة ترامب من الحرب الدائرة في أوكرانيا.

وفي أزمة أوكرانيا التي ورثها عن سلفه، انتهج ترامب مقاربة شخصية وفورية لمحاولة إنهاء الصراع المستمر بين كييف وموسكو. خلال أسابيعه الأولى في المنصب، أجرى اتصالات مباشرة مع كل من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، عارضًا himself كوسيط “صفقة كبرى” يمكنه إنهاء الحرب سريعًا. وبالفعل، دفعت إدارته نحو تنظيم قمة مفاوضات غير مسبوقة تستضيفها المملكة العربية السعودية، على أساس جمع الأطراف المتحاربة بدعم من دول محايدة نسبيًا في الشرق الأوسط​.

 وفي العلن، تبنى ترامب لهجة حازمة ظاهريًا تجاه موسكو،  إذ حذر من أنه قد يفرض عقوبات قاسية جديدة على روسيا إذا لم تظهر مرونة في المفاوضات، لكنه في الوقت نفسه أثار جدلًا واسعًا بتصريحات بدت متساهلة مع الكرملين. فعندما سُئل في مقابلة عن استمرار الهجمات الروسية العنيفة رغم مساعيه للسلام، أجاب ترامب مدافعًا بأن “أي زعيم مكان بوتين كان سيفعل الشيء نفسه” لضمان مصالح بلاده. مثل هذا الكلام اعتبره مراقبون إشارة ضمنية إلى تفهمه موقف بوتين، بل إن البعض قرأ فيه تبريرًا ضمنيًا للعدوان الروسي. أما تجاه أوكرانيا، فبينما استقبل ترامب الرئيس زيلينسكي في المكتب البيضاوي وأكد له دعم واشنطن “للتوصل إلى سلام عادل"، فإنه تجنب بعناية التعهد باستمرار الدعم العسكري المفتوح الذي قدمته إدارة بايدن لكييف. 

هذا التوجه أربك المسؤولين الأوكرانيين ودفعهم للتساؤل عن مدى التزام واشنطن الحقيقي بصد العدوان الروسي، كما أثار مخاوف عميقة لدى دول أوروبا الشرقية الحليفة التي تعتمد بشدة على المظلة الأمنية الأمريكية. لقد وجدت هذه الدول نفسها تتواصل بشكل غير مباشر مع الكونغرس الأمريكي وحتى البنتاغون لضمان استمرار تدفق الأسلحة والمساعدات لأوكرانيا، تحسبًا لأي تغيير مفاجئ في مواقف البيت الأبيض. وبالفعل، أوردت مصادر صحفية أن موسكو أبدت ارتياحًا لما تراه توجها أمريكيًا “أكثر براغماتية” حيال الحرب​، فيما عبّر دبلوماسي أوروبي عن الأمر بقوله: “علينا الآن التخطيط لعالم قد لا تكون فيه أمريكا بنفس الحزم الذي كانت عليه أمس”،  في تلخيص لمخاوف الأوروبيين من حسابات ترامب غير المتوقعة.

أما في مناطق أخرى من العالم، فقد اتسمت سياسة ترامب الخارجية بمزيج من الانكفاء والصرامة الانتقائية. في الشرق الأوسط، انحاز ترامب بقوة تامة إلى حليفته التقليدية إسرائيل في صراعها مع الفلسطينيين. فعندما اندلع توتر جديد في قطاع غزة وأطلقت إسرائيل حملة عسكرية واسعة هناك (في تداعيات ما بعد حرب 2023)، أعطى ترامب ضوءًا أخضر مطلقًا للإسرائيليين في تحركاتهم. وعقب وقف إطلاق نار هش تم التوصل إليه بوساطة دولية، تباهى ترامب بأنه لولاه لما تحقق وقف القتال بهذه السرعة، منتقدًا ما وصفه بـ“تردد” إدارة بايدن السابقة في دعم إسرائيل بشكل كامل​. 

ولم يكتفِ بذلك، بل ذهب أبعد باقتراح رؤية مثيرة للجدل لمستقبل غزة، حيث لمح في اجتماع مغلق (تسربت تفاصيله للصحافة) إلى ضرورة “تطهير غزة بالكامل” من النفوذ المعادي لإسرائيل بمشاركة دول عربية مجاورة​. هذا التصريح، حين خرج للعلن، قوبل بانتقادات حادة واحتجاجات في العالم العربي، إذ اعتبرته جهات فلسطينية وعربية دعوة للتهجير الجماعي للفلسطينيين وتصفية قضيتهم. 

وعلى الصعيد الدبلوماسي، أدى ذلك إلى فتور شديد في أجواء العلاقات الأمريكية مع الدول العربية، حتى تلك التي أبرمت اتفاقيات سلام وتطبيع مع إسرائيل،  حيث وجدت حكوماتها نفسها تحت ضغط شعبي لإدانة تصريحات ترامب. ومع أن بعض العواصم الخليجية الكبرى التزمت الصمت العلني، إلا أن مؤشرًا على الاستياء تمثل في إلغاء اجتماع كان مقررًا بين وزير الخارجية الأمريكي ونظرائه في عدد من الدول العربية الحليفة، دون تحديد موعد بديل.

في المقابل، حظي نهج ترامب بترحيب قوي من حكومة اليمين في إسرائيل. فقد أثنى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على “الدعم الصلب” الذي يقدمه ترامب، معتبرًا أن وجوده في البيت الأبيض “نعمة لإسرائيل” بعدما “عانت”،  بحسب تعبيره،  من فتور العلاقة في عهد بايدن. 

هذا التقارب الأمريكي الإسرائيلي تعزز بقرارات أخرى اتخذها ترامب كجزء من سياسة الضغط القصوى على إيران، حيث وسّع قائمة العقوبات الاقتصادية على طهران لتشمل قطاعات جديدة، وألمح إلى أنه لن يتسامح مع أي تجاوز إيراني في المنطقة، مهددًا برد عسكري إن لزم الأمر. وأكدت إدارته استمرار تمركز حاملة طائرات أمريكية في شرق المتوسط “كإشارة ردع” لإيران ووكلائها في المنطقة. وقد لقي هذا الموقف استحسانًا من السعودية والإمارات، اللتين تخوفتا سابقًا من سياسة بايدن التصالحية نسبيًا تجاه إيران.

بالانتقال إلى إفريقيا، بدت مقاربة ترامب لهذه القارة الأكثر جذرية ضمن سياسته الخارجية. فخلافًا لمحاولات الرؤساء السابقين، سواء أوباما أو حتى جورج بوش الابن، تعزيز الحضور الأمريكي الناعم في إفريقيا عبر المساعدات والتنمية، اتجه ترامب إلى تقليص انخراط واشنطن هناك إلى حدوده الدنيا. 

كشفت تقارير أن إدارته تدرس إغلاق عدد من السفارات الأمريكية في دول إفريقية وتقليص البعثات الدبلوماسية إلى حد كبير​، إلى جانب خفض التمويل المخصص لبرامج المعونات والتنمية. بل إن ترامب أشار إلى أنه قد يدمج الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية(USAID)  ضمن وزارة الخارجية أو يلحقها بالكامل بوزارة الخزانة، بهدف إحكام الرقابة على أوجه صرف المساعدات الخارجية وجعلها مشروطة أكثر بخدمة المصالح الأمريكية المباشرة.

 ولم يخف مسؤولون في الإدارة اعتقادهم بأن كثيرًا من تلك المساعدات “يذهب هباءً” وبحاجة إلى إعادة نظر جذرية. بالطبع، أثارت هذه التوجهات قلقًا في دول إفريقية عديدة تعتمد على الدعم الأمريكي في مجالات الصحة والتعليم ومكافحة الأمراض الوبائية. وحذر خبراء في التنمية من أن انسحاب أمريكا سيترك فراغًا قد تسارع دول أخرى،  كالصين وروسيا،  لملئه عبر زيادة نفوذها واستثماراتها في القارة السمراء​. وبينما التزمت الكثير من الحكومات الإفريقية الصمت العلني ترقبًا لما سيفعله ترامب فعليًا، عبّر الاتحاد الإفريقي بشكل دبلوماسي عن أمله في “استمرار الشراكة التاريخية” مع واشنطن من أجل استقرار وازدهار إفريقيا، في ما فُسّر على أنه مناشدة مبطنة للإدارة الأمريكية كي لا تدير ظهرها تمامًا للقارة.

على جبهة العلاقات مع الصين، استأنف ترامب إلى حد كبير النهج المتشدد الذي اتسمت به سنواته الأولى في الرئاسة. فإلى جانب التصعيد التجاري بفرض الرسوم الجمركية الجديدة على بكين​، استمر الضغط الأمريكي على الصين في ملفات أخرى مثل قيود تصدير التقنيات المتقدمة وبرامج مراقبة الاستثمارات الصينية في الولايات المتحدة. ولم يتضح بعد كيف سيتعامل ترامب مع قضية شركة تيك توك المملوكة للصينيين،  وهي قضية ورثها عن إدارة بايدن التي كانت تبحث فرض حظر أو بيع قسري للتطبيق،  لكن وزير العدل الجديد أشار إلى أن “كل الخيارات على الطاولة” لضمان عدم تهديد الأمن القومي عبر المنصات الصينية. 

وردت بكين بتحذير واشنطن من “مواصلة السير في طريق المواجهة”، داعية إلى العودة للحوار والتعاون الاقتصادي بدلًا من الإجراءات العقابية المتبادلة. ورغم هذه النبرة العدائية في العلن، تكثفت اللقاءات بين مسؤولين أمريكيين وصينيين خلف الكواليس لضمان عدم خروج الخلافات عن السيطرة. ويبدو أن الطرفين يدركان أهمية الإبقاء على خطوط اتصال مفتوحة تفاديًا لحرب تجارية شاملة قد تضر بالاقتصاد العالمي المتباطئ أصلًا.

في المحصلة، رسمت سياسة ترامب الخارجية خلال مائة يوم ملامح عالم يقل فيه انخراط أمريكا المباشر في القيادة المتعددة الأطراف، مقابل التركيز على الصفقات الثنائية والضغوط الأحادية على الخصوم. رحب خصوم واشنطن التقليديون،  كروسيا والصين إلى حد ما،  ببعض جوانب هذا التحول التي تخفف الضغط عليهم، فيما حاول الحلفاء التأقلم مع واقع جديد أقل يقينًا بشأن الالتزامات الأمريكية. وبينما أشاد أنصار نهج ترامب بما اعتبروه عودة الهيبة الأمريكية عبر إملاء الشروط على الجميع، حذر منتقدوه من أن الانسحاب من اتفاقيات دولية وإضعاف التحالفات قد يفضي إلى عزلة أمريكية وتراجع نفوذها الطويل الأمد على المسرح العالمي​.

الانقسام والدعم الشعبي: الشارع بين التأييد والمعارضة

كما في ولايته الأولى، رافقت خطوات ترامب الجريئة في أسابيعه الأولى عاصفة من الاستجابات الشعبية المتناقضة التي عكست الإنقسام العميق داخل المجتمع الأمريكي. فأنصاره ومؤيدوه رأوا في قراراته الصارمة ترجمةً لوعوده الانتخابية واستعادة للنظام الذي اختل،  برأيهم،  في السنوات السابقة، في حين اعتبره خصومه تكريسًا لنهج استبدادي يهدد القيم الديمقراطية. وعلى امتداد البلاد، اشتعلت ساحات المدن الكبرى بالمسيرات، بعضها مؤيد والأغلب معارض، في مشهد أعاد إلى الأذهان موجة الاحتجاجات الضخمة التي أعقبت تنصيب ترامب الأول في 2017، ولكن هذه المرة مع قوّة دفع إضافية ناجمة عن تراكم الخبرات والتنظيم لدى الطرفين.

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وسط أنصاره
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وسط أنصاره

في معسكر المعارضة، نظمت القوى التقدمية والحقوقية سلسلة من الاحتجاجات والفعاليات الوطنية منذ الأسبوع الأول. وقبل حتى انقضاء عشرة أيام على التنصيب، شهدت واشنطن ومدن أخرى “مسيرة الشعب” التي شارك فيها مئات الآلاف رفضًا لسياسات ترامب في البيئة والهجرة وحقوق الأقليات، في استعادة لتقليد “مسيرة النساء” التي كانت قد عمت البلاد مطلع 2017 وإن بقاعدة أوسع هذه المرة. 

ومع توالي القرارات التنفيذية المثيرة للجدل، تنادى النشطاء لتنفيذ تحركات متخصصة: فمثلًا، عقب قرارات الهجرة المشددة، شهدت لوس أنجلوس وعشرات المدن يومًا وطنيًا بعنوان "يوم بلا مهاجرين" خرجت فيه مسيرات حاشدة شارك فيها عشرات الآلاف من العمال والمهاجرين وأصحاب الأعمال لإبراز الدور الحيوي للمهاجرين في الاقتصاد والمجتمع الأمريكي​. كذلك، عندما ألغى ترامب سياسات التنوع وحقوق المتحولين، اندلعت احتجاجات  "Hands Off" (أي “لا تَمَسّ”) في أكثر من ألف مدينة وبلدة عبر الولايات المتحدة، رافعًا فيها المتظاهرون شعارات تدعو ترامب إلى عدم المس بحقوق النساء والأقليات والمهاجرين والمناخ. توحد الليبراليون واليساريون تحت هذا الشعار العام رغم تنوع مطالبهم، فيما اعتُبرت تلك المظاهرات أوسع حراك شعبي ليوم واحد منذ سنوات، حيث قُدر أنها شملت ما يزيد عن 1000 فعالية احتجاجية بمختلف الأحجام في جميع الولايات الخمسين​.

 ولم يقتصر الأمر على الشارع؛ بل شهدت المؤسسات التعليمية والثقافية بدورها حركات رفض. فعلى سبيل المثال، وقّع آلاف الأكاديميين على بيانات تنديد بحظر دخول الطلاب من بعض الدول وبإجراءات تقييد البحث العلمي المرتبطة بتمويل حكومي. كما أعلنت جامعات مرموقة أنها لن تتخلى عن سياسات التنوع في القبول والتوظيف على الرغم من التوجهات الفدرالية​. هذا العصيان الأكاديمي الناعم قابله ترامب وحلفاؤه بتهديدات بقطع التمويل الفدرالي عن المؤسسات التي لا تلتزم بالقوانين الجديدة،  كما فعلت حاكمة جمهورية بارزة بتلويحها بحرمان جامعة هارفارد من قدرة استقدام طلبة أجانب إذا استمرت فيما اعتبرته “سياسات مناهضة لأمريكا".

في الجهة الأخرى، أظهر أنصار ترامب حماسًا منقطع النظير لما يعتبرونه إنجازات رئيسهم خلال 100 يوم فقط. قاعدة ترامب الشعبية، المتمركزة أساسًا في الولايات الريفية والجنوبية والوسطى، شعرت بأن زعيمها لم يخذلها بل بدأ فورًا في تنفيذ وعوده بشأن حماية الحدود وإعادة الوظائف والنظام. وقد تجلى هذا الحماس في تجمّعات شعبية ضخمة نظمها أنصار ترامب دعمًا لسياساته، بلغت ذروتها في مسيرة تأييد وطنية نظمت في فلوريدا بمشاركة عشرات الآلاف، رفعوا خلالها لافتات مثل "استعدنا أمريكا" و"استمر في القتال يا ترامب". 

ولم يفوّت ترامب نفسه فرصة للاستفادة من هذه الطاقة الجماهيرية؛ فعاد إلى أجواء المهرجانات الانتخابية التي يعشقها. أقام سلسلة من التجمعات الجماهيرية في ولايات رئيسية، كان أولها تجمع حاشد في أوهايو حيث ظهر مع نائبه ج.د. فانس أمام حشد غفير مبتهج. وفي إحدى هذه المناسبات الجماهيرية، أطلق ترامب عبارته الطريفة التي أثارت جدلًا واسعًا بقوله إنه ربما “يبقى في البيت الأبيض أكثر من ثماني سنوات” لو قدّر الأمريكيون أداءه الاستثنائي، وهي مزحة استقبلها أنصاره بالتصفيق والهتاف الحار، فيما اعتبرها منتقدوه تلميحًا مقلقًا لطموحات تتجاوز حدود الدستور.

أما استطلاعات الرأي فعكست،  كالعادة،  حالة الانقسام بحدّة. فمع نهاية المائة يوم، انقسم الأمريكيون في تقييمهم للرئيس بين معسكر ثابت يقارب 40% أو أكثر بقليل يقرّون أداءه ويرونه قائدًا يُنجز ما وعد به، وبين أغلبية نسبية (حوالي نصف الأمريكيين أو أكثر) تعارض معظم خطواته وتبدي خشية على مستقبل الديمقراطية والاقتصاد تحت قيادته. وتعزز هذا الانقسام بفضل التغطية الإعلامية التي انشطرت بدورها بين وسائل محافظة تشيد بـ“انتصارات ترامب” وإنجازاته المتسارعة، مقابل وسائل ليبرالية تسلط الضوء على الأخطاء والتداعيات السلبية لكل خطوة يخطوها. النتيجة كانت مشهدًا وطنيًا مستمر الاستقطاب: مدن زينها أنصار ترامب بالأعلام والشعارات المؤيدة، وأخرى ملأت شوارعها لافتات الاحتجاج والمقاومة المدنية.

مقارنة بالولاية الأولى (2017–2021): ما الذي تغيّر؟

عندما نقارن أداء ترامب خلال المائة يوم الأولى من ولايته الحالية بما كان عليه الحال في مستهل ولايته الأولى عام 2017، نلمس مزيجًا من الاستمرارية والتغيير في آن معًا. فمن جهة، ما زال ترامب هو ترامب: الشخصية المثيرة للجدل نفسها، بأسلوب القيادة غير التقليدي والجرأة في اتخاذ الخطوات الصادمة. ومن جهة أخرى، يبدو ترامب هذه المرة أكثر خبرة وجرأة مستفيدًا من دروس تجربته السابقة ومتغيرات المشهد السياسي من حوله.

أحد الفوارق الجوهرية هو مستوى الجاهزية والتخطيط داخل الإدارة منذ اليوم الأول. في 2017، دخل ترامب البيت الأبيض كوافد جديد إلى الحكم يفتقر إلى الخبرة البيروقراطية، ما جعل أسابيعه الأولى تتسم ببعض التخبط في ملء المناصب وتأخر إنجاز الكثير من الوعود بسبب اصطدامها بواقع الدولة العميقة. أما في عودته عام 2025، فجاء ترامب وفريقه أكثر استعدادًا بكثير. ويعود الفضل في ذلك جزئيًا إلى مشروع أعدته مراكز بحثية محافظة حمل اسم "مشروع 2025"، وهو عبارة عن خطة عمل مفصلة اقترحت سياسات جاهزة وهيكلة جديدة للحكومة لتنفيذ أجندة اليمين منذ اللحظة الأولى​.

 وبالفعل، يظهر أن ترامب استلهم الكثير من تلك الأطروحات؛ فثلثا الأوامر التنفيذية الـ26 التي وقعها في يومه الأول طابقت مقترحات واردة في ذلك الدليل الضخم​. كما أن تعييناته في المناصب العليا،  من الوزراء إلى وكلاء الوزارات،  شملت عددًا من معدّي مشروع 2025 أنفسهم، مما سرّع تناغم الإدارة الجديدة في تحقيق أهدافها​. هذا التحضير المسبق جعل قرارات ترامب أكثر فعالية وسرعة مقارنة ببدايات عهده الأول، حيث اعترف هو شخصيًا بأن فريقه آنذاك “لم يكن يعرف دهاليز واشنطن جيدًا” في أول الأمر.

إضافة لذلك، اختلاف تركيبة الفريق الرئاسي أحدث فرقًا واضحًا في الأسلوب. ففي 2017، أحاط ترامب نفسه ببعض الشخصيات الجمهورية التقليدية أو الجنرالات السابقين (مثل وزير دفاعه جيمس ماتيس ووزير خارجيته ريكس تيلرسون ورئيس أركانه جون كيلي لاحقًا) والذين حاولوا ضبط إيقاع قراراته أو كبح اندفاعه في مرات عديدة. أما في 2025، فقد حرص ترامب،  مدفوعًا بتجربة احتكاكه بتلك الشخصيات التي اعتبرها معيقة له في ولايته الأولى، على تجنّب اختيار أي شخص قد يختلف معه بحدة.

 النتيجة كانت فريقًا متجانسًا في الولاء، ولكنه أحادي الصوت، لا يضم الكثير من الشخصيات ذات الثقل المستقل. وظهر ذلك جليًا في التعيينات الوزارية كما أسلفنا (غويتز، غابارد، وغيرهما من الأسماء الموالية)​، وكذلك في مناصب مجلس الأمن القومي حيث تردد أن مستشار الأمن القومي الجديد،  وهو شخصية مقرّبة من ترامب،  يدير الأمور عبر مجموعات مراسلة خاصة بعيدًا عن أعين الخبراء التقليديين​.

 هذا الفرق في تركيبة الفريق جعل عملية صنع القرار في 2025 أكثر مركزية وتمحورًا حول الرئيس شخصيًا؛ فعدد الأصوات المعارضة أو المحذرة داخل البيت الأبيض أقل بكثير مما كان عليه الأمر في 2017، ما يعني احتكاكًا أقل وتماسكًا أعلى في تنفيذ رؤية ترامب، لكنه أيضًا يعني غياب المكابح الداخلية التي كانت أحيانًا تفرمل بعض خطواته الأكثر إثارة للجدل في ولايته الأولى.

على صعيد التعامل مع المؤسسات والقانون، يظهر أن ترامب تعلم أيضًا كيفية استخدام أدوات السلطة بجرأة أكبر هذه المرة. فمثلًا، خلال ولايته الأولى، عندما أصدر ترامب قراراته بحظر السفر على بعض الدول ذات الأغلبية المسلمة، نجحت المحاكم في تعليق المراسيم الأولى قبل أن يعيد إصدار نسخة مخففة تم إقرارها لاحقًا. أما في ولايته الثانية، فقد أصدر مجموعة قرارات مثيرة للجدل، مثل إنهاء حق الجنسية بالولادة،  وهو يعلم تمامًا أنها ستواجه طعونًا قضائية، لكنه قام بتحصين موقفه القانوني قدر الإمكان عبر استشارات مكثفة من خبراء قانونيين محافظين قبل إصدارها​.

 كما أنه استفاد من التغير في تركيبة المحكمة العليا التي باتت أغلبية قضاتها من المحافظين (6 من 9 قضاة) مما يعطيه ثقة أكبر بأن كثيرًا من سياساته لن ترفضها المحكمة كما حصل مع أسلافه. وبالفعل، حين أوقف قاضٍ فدرالي أمر ترامب بشأن الجنسية، رفعت إدارته الأمر فورًا إلى المحكمة العليا بطلب استعجال النظر فيه. يُضاف إلى ذلك أن ترامب هذه المرة أقال مبكرًا كل مسؤول رفيع شكّ في ولائه، من مدير الـFBI  إلى المفتشين العامين،  ولم ينتظر حتى يتجذر أي تحقيق أو معارضة داخلية ضده، على عكس ولايته الأولى حين أبقى مثلًا على مدير FBI السابق جيمس كومي لأشهر قبل أن يقيله مما ولّد تداعيات كبيرة. هذه القسوة والسرعة في تطهير مؤسسات الدولة من الخصوم المحتملين ميزت ترامب 2.0 عن نهجه 1.0.

من جهة أخرى، ورغم كل ما سبق، لا يمكن إنكار أن ترامب استمر على نفس خطه الشعبوي العام دون تغير يذكر. فما زال يعتمد على الإثارة الإعلامية والتغريدات الهجومية للحفاظ على زخمه السياسي، وما زال يتجاهل بروتوكولات الرئاسة التقليدية،  مثل عدم الإفراط في التعليق على تحقيقات جارية أو أحكام قضائية،  حيث علق غير مرة على قضايا منظورة بكلمات حادة. كما أن علاقته المتوترة بالإعلام والصحافة بقيت على حالها، إن لم تصبح أشد صدامية.

ترامب لا زال مستمرا على نفس خطه الشعبوي الهام
ترامب لا زال مستمرا على نفس خطه الشعبوي الهام

ولعل الشارع الأمريكي هو المقياس الأوضح لاستمرارية الانقسام: فما جرى في الأسابيع الماضية يشبه كثيرًا ما جرى في بدايات 2017،  موجات احتجاج ومعارضة صاخبة مقابل موجة تأييد صلبة،  مما يدل على أن شخصية ترامب ونهجه في الحكم لا تزال تستفز قطاعات واسعة وفي الوقت نفسه تُلهم أخرى. ولعل الفارق أن هذه المرة كثيرًا من الأمريكيين خاضوا التجربة قبلًا، وبالتالي فالطرفان أكثر تنظيمًا واستعدادًا للمواجهة مما كانوا عليه قبل ثماني سنوات.

في المحصلة، وبعد مرور 100 يوم على ولايته الثانية، يظهر دونالد ترامب في صورة زعيم واثق الخطى، أحكم قبضته على السلطة التنفيذية بشكل لم يفعله في ولايته الأولى، وشرع في تنفيذ تغييرات جذرية عبر أوامر وتشريعات تثير الحماس عند مؤيديه والخوف عند معارضيه. ترامب كما عرفه الجميع، لكن ربما بنسخة أشد جرأة وأقل تسامحًا مع المعارضين. وبينما يرى أنصاره أنه ببساطة يفي بالوعود ويصلح ما يعتبرونه "أخطاء" الإدارات السابقة، يحذر منتقدوه أن البلاد دخلت مرحلة اختبار حقيقي لقدرة الديمقراطية الأمريكية على الصمود أمام شخصية استثنائية كهذه.

 ومن الآن فصاعدًا، سيكون التحدي الأكبر أمام ترامب،  كما أمام خصومه،  هو ترجمة هذا الزخم الأولي في المائة يوم إلى سياسات دائمة ونتائج ملموسة، إما لترسيخ رؤيته في سجلات التاريخ الرئاسي، أو لمقاومتها والحيلولة دون تشكل أمر واقع جديد يصعب تغييره. الزمن وحده سيكشف أي الفريقين كان الأقدر على الصمود في هذه المواجهة التي لا تزال في فصولها الأولى.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق خبير: الصين قد تلعب دورًا مهمًا في مفاوضات "نووي إيران" - نجوم مصر
التالى هل الخميس إجازة رسمية بمناسبة عيد تحرير سيناء؟.. كم يتبقى على إجازات عيد الأضحى؟ - نجوم مصر