احتلال تجاوز سبعة عقود، ودمٌ فلسطيني لا يزال يُراق على مرأى ومسمع العالم، وسط صمتٍ أقرب إلى التواطؤ. تطهير عرقي، تهجير قسري، حصار وتجويع… ليست هذه مشاهد من الماضي، بل جرائم مستمرة تتكرر منذ ما قبل عام 1948 وحتى اليوم.
وفي قلب هذا المشهد الدموي، تخرج بعض الأصوات العربية لتُشكك في عدالة القضية الفلسطينية، وتُطلق اتهامات بالخيانة ضد الشعوب لمجرد رفضها لوصم المقاومة بالإرهاب. من بين هذه الأصوات برزت داليا زيادة، التي تعمل ضمن مركز القدس لدراسات الأمن والشؤون الخارجية الإسرائيلي، وقد نشرت عبر صفحتها على “فيسبوك” اتهامات صريحة للمصريين بدعم ما وصفته بـ”تنظيم إرهابي” في إشارة إلى حركة حماس، واعتبرت الدفاع عن المقاومة خيانة. في المقابل، وصفت نفسها بأنها “تدعو للسلام” وتتعرض للاستهداف من الدولة. وهي تصريحات تكشف عن انفصال تام عن الواقع، وتجاهل فادح لتاريخ طويل من النضال والتضحيات المصرية والفلسطينية.
القضية الفلسطينية لم تكن يومًا وهمًا، بل واقع حيّ نابض بالشهداء والدمار والمجازر المتواصلة. منذ ثلاثينيات القرن الماضي، من مجازر دير ياسين واللد والرملة، إلى صبرا وشاتيلا وتل الزعتر، فمجزرتي كفر قاسم وخان يونس، وصولًا إلى رفح والحروب الدامية على غزة أعوام 2008، 2012، 2014، 2021، ثم العدوان الكارثي في 2023 الذي شكّل أعتى موجة إبادة جماعية عرفها القطاع.
فمنذ السابع من أكتوبر 2023، يتعرض قطاع غزة لحرب إبادة ممنهجة، أسفرت حتى أبريل 2025 عن استشهاد أكثر من 61،700 فلسطيني، من بينهم أكثر من 47،000 تم توثيقهم داخل المستشفيات، بينما لا تزال جثامين نحو 14،000 آخرين تحت الأنقاض أو في الشوارع. هذا بالإضافة إلى أكثر من 77،000 جريح، ومئات الآلاف من المشردين والمهجرين قسرًا.
المجازر لا تُعد ولا تُحصى. المستشفيات والمدارس ومخيمات اللاجئين تحولت إلى مقابر جماعية، في ظل حصار خانق وتخاذل دولي شبه تام، لتتحول غزة إلى شهادة دامغة على فشل النظام العالمي في حماية الأبرياء.
وفي هذا السياق، يصبح الطعن في موقف مصر من القضية الفلسطينية طعنًا مباشرًا في سجلها التاريخي الحافل بالتضحيات. مصر لم تغب يومًا عن الساحة الفلسطينية، لا عسكريًا ولا سياسيًا ولا شعبيًا. احتضنت المقاومة، ودفعت ثمنًا باهظًا دفاعًا عن القضية، ولم تربط موقفها بفصيل أو جهة، بل التزمت بالدفاع عن الحق الفلسطيني باعتباره قضية أمة. دعم الشعب الفلسطيني ليس انحيازًا لتنظيم، بل هو موقف أخلاقي وإنساني لا يتغير.
الخلط بين النقد السياسي والتخوين خلطٌ خطير يخدم فقط أعداء الأمة. فانتقاد فصيل ما لا يعني تبرئة الاحتلال، ولا يُبرر الإساءة لشعب رفض أن يصمت على الظلم. الصراع في جوهره ليس بين تنظيمات، بل بين شعب أعزل وآلة قتل مدعومة من أقوى قوى العالم.
وفي نفس المنشور، كتبت الباحثه الاسرائليه قائلة:
“لكل من يتهمني بالخيانة في مصر اليوم، من أكبر واحد لأصغر واحد… أنتم من ترتكبون فعل الخيانة ضد مصر ومصلحتها في كل لحظة، وليس أنا. عار عليكم، والتاريخ لن ينسى، مهما حاولتم تزوير الحقائق… وعلى رأي المثل: العايبة تلهيك، واللي فيها تجيبه فيك!”
هذا الخطاب ليس رأيًا حرًا، بل هجوم سافر على وعي الشعوب وتاريخها. الادعاء بأن الدولة تستهدف “دعاة السلام” زعم باطل لا سند له. من حق الدولة حماية أمنها القومي، والتصدي لأي خطاب يُستغل للنيل من ثوابتها أو لترويج روايات معادية. السلام لا يعني تبرئة الاحتلال، ولا يجب أن يكون غطاءً للتطبيع أو لتزييف الوقائع.
الخطاب الذي يستخدم تعبيرات من قبيل “أنتم الخونة” و”التاريخ لن يغفر” لا يُعبّر عن حرية رأي، بل يكشف عن نزعة استعلائية تسعى لتقسيم الصف الوطني وشيطنة المخالف. الوطنية لا تُقاس بمنشور على مواقع التواصل، بل تُقاس بتاريخ الشعوب ومواقفها في الدفاع عن الحق.
القضية الفلسطينية ليست “وهمًا” كما يحاول البعض تصويرها، بل هي قضية إنسانية وأخلاقية وسياسية تستدعي أصواتًا حرة لا تخاف في الحق لومة لائم، ولا تنحاز للجلاد باسم “السلام”.
وإلى الباحثة التي تُهين وعي الشعوب تحت لافتة “السلام”، يبقى السؤال البديهي: ما الثمن الذي تتقاضينه للدفاع عن الاحتلال؟ وهل السلام في قاموسك يعني الصمت على المجازر وتشويه من يتضامنون مع الضحايا؟
وفي هذا السياق، نطالب الجهات المعنية بسرعة إسقاط الجنسية المصرية عن هذه الباحثة التي ترتبط رسميًا بمراكز بحثية إسرائيلية، كي تُعبّر عن مواقفها بحرية تامة، دون أن تُحسب تصريحاتها على المصريين، أو تُسيء لاسم الوطن من منابر لا تمثل إلا من يمولها.
ختامًا، ستبقى فلسطين قضية الشرفاء ما دام فيهم نبض، ولن تُطفأ جذوتها بروايات مزيفة، ولا بأصوات مأجورة تحاول تسويق الاحتلال تحت لافتة “السلام”